الموصل.. مدينة الموسيقى والمقرئين والمجازر (بورتريه)
حال المدن مثل حال الرجال والنساء والخيول، تنبت أمامك فجأة، قد تمضي حياتك دون أن تلاحظها، لكنك في لحظة ما تجدها تقف أمامك كما لو كانت هناك منذ الأزل، لكن فطنتك خانتك، وحسن تصرفك لم يكن كما اعتدناه منك.
يمن مونيتور/عربي 21
حال المدن مثل حال الرجال والنساء والخيول، تنبت أمامك فجأة، قد تمضي حياتك دون أن تلاحظها، لكنك في لحظة ما تجدها تقف أمامك كما لو كانت هناك منذ الأزل، لكن فطنتك خانتك، وحسن تصرفك لم يكن كما اعتدناه منك.
مدينة أمضت نحو ثلاثة آلاف سنة تقاوم الغزاة والفاتحين، دمرت وأعيد بناؤها عشرات المرات، قاومت وانهزمت على مر التاريخ، شأن جميع المدن التي كتب عليها أن تكون هدفا للطامعين والطامحين.
مدينة تقف الآن على أبوب الكارثة من كلا الطرفين “تنظيم الدولة/ داعش” نحو 5 آلاف مقاتل، والقوات العراقية والمليشيات الطائفية والبيشمركة (نحو 50 ألفا)، مع إسناد جوي كثيف من الولايات المتحدة الأمريكية. وفي النهاية، ستحسم المعركة لصالح التحالف، وتسقط الموصل، ويكون أهلها من العرب السنة أمام المجزرة المفتوحة.
يشكل العرب السنة معظم سكان مدينة الموصل، وينتشر فيها أقلية من الأكراد الذين ينتمون للمذهب السني في الغالب، أما بقية الطوائف من تركمان مسلمين، أو ديانات أخرى تشمل المسيحيين والصابئة المندائيين واليزيديين والشبك، فيشكلون بمجموعهم نسبة قليلة لا تتجاوز 5% من مجموع سكان المدينة.
وعلى عكس الصورة المرسومة في الذهن عن الموصل، بوصفها مدينة حروب ومواجهات بين الإمبراطوريات الكبرى التي حكمت المنطقة، فالموصل اشتهرت منذ العصر الإسلامي بكونها أحد أهم مراكز الموسيقى والمقرئين في الدولة الأموية والعباسية.
فيها نشأ إسحاق الموصلي وزرياب، ويعتقد أن الموشحات العربية نظمت فيها أول مرة، متأثرة بموسيقى الكنيسة السريانية. وعرفت المدينة بالعديد من المقرئين الذين برعوا في المقامات في أوائل القرن العشرين، مثل الملا عثمان الموصلي، وأحمد عبد القادر الموصلي، وحنا بطرس. كما اشتهر الأخوان جميل ومنير بشير بعزف العود والمقامات في النصف الثاني من القرن ذاته، وحققا شهرة عالمية.
مدينة تاريخها أكبر بكثير من الجيوش والجنرالات والطوائف والمحاربين الذين يحتشدون لاقتحامها، الغبار الذي تثيره حولها يغطي على كل النياشين والرتب والخوذات وهتافات الطائفيين.
واسم المدينة موصل من كلمة “أصل” ومن فعل “وصل”، وكلمة “موصل” تعني أن المكان فيها “يصل” كل شيء من التجارة والبيع وغيرها. وسماها العرب “الموصل”؛ لكونها ملتقى عدة طرق تربط الشرق بالغرب.
وهي مركز محافظة نينوى في شمال العراق على ضفاف نهر دجلة، وهي ثاني مدينة في البلاد من حيث السكان بعد بغداد.
تشير المصادر التاريخية إلى أنه في عام 1080 ق.م، اتخذ الآشوريون مدينة نينوى عاصمة لهم، كما بنى الآشوريون عددا من القلاع للدفاع عن أنفسهم عام 612 ق.م ، واستولى الميديون والكلدانيون على نينوى بعد معركة طاحنة، ودمروها كما دمّروا الحصن العبوري.
بعد هدوء المعارك، عاد أهالي الموصل ونينوى إلى ديارهم، ورمموا ما خربه القتال، وأعادوا بناء الحصن العبوري، وازدادت هجرة القبائل العربية إلى بلاد الرافدين وبادية الشام، وازداد البناء والعمران حول الحصن العبوري، حتى أصبحت قرية لها شأن يُذكر.
واهتم الأخمينيون الذين حكموها عام 550-331 ق.م في توطين العرب والفرس فيها.
لم تسلم الموصل من الحروب التي دارت بين الشرق والغرب، والتي سببت نكبتها لعدة مرات، ومنها الحروب التي دارت بين الساسانيين والرومان عام 241 ميلادية وعام 579.
والموصل، المدينة القديمة، بناها العرب الفاتحون أيام الفتوحات الإسلامية لمنطقة الجزيرة وجبال كردستان، أما الساحل الشرقي من المدينة حاليا، فهو بالأصل مدينة أشورية اسمها نينوى.
لا يعرف بالتحديد معنى تسمية نينوى، وهو اسم المدينة في زمن الأكديين، غير أنه يرجح أن يكون له علاقة بـ”الإله عشتار”؛ كون اسمها القديم كان نينا. ورواية أخرى ترجع اسم المدينة إلى الآرامية؛ حيث تعني كلمة نونا السمك.
ولا تزال المدينة بأكملها تعرف أحيانا بنينوى لدى السريان. يرجح من جهة أخرى أن تكون الكلمة ذات أصل عربي، بمعنى “ما يوصل بين شيئين”، كونها وصلت بين ضفتي دجلة لدى بنائها، وقيل بين الجزيرة والعراق، وقيل لأنها تصل بين دجلة والفرات.
في عام 637، دخل العرب المسلمون الموصل بقيادة ربعي بن الأفكل العنزي، الذي دبر خطة للسيطرة على الموصل بمساندة قبائلها العربية، التي كانت في قتال ضد الروم في تكريت، فقامت هذه القبائل بالانسحاب إلى الموصل، مُظهرين انهزام المسلمين في معركة تكريت، حتى إذا دخلوا المدينة سيطروا على أبوابها، لتدخل وراءهم جيوش المسلمين.
أصبح عتبة بن فرقد السلمي واليا على الموصل بعد السيطرة عليها، وعمل على توطين وإسكان العرب المسلمين من قبائل النمر وتغلب وإياد. وفي عهد الخليفة عثمان بن عفان، كثرت هجرة القبائل العربية إليها، بعد أن استقر الوضع فيها، ومنها الأزد وطي وكندة وعبد قيس.
كما توسعت الهجرة العربية إليها في خلافة علي بن أبي طالب، وهذا ما جعل مدينة الموصل مدينة كبيرة ذات كثافة سكانية عالية.
ازداد توسع الموصل في عهد الأمويين، وشق الحر بن يوسف الأموي نهرا عرف بـ”نهر الحر” يسير محاذيا للتلال المطلة على حاوي كنيسة (وهو مجرى نهر دجلة الحالي)، حيث كان سابقا يمر قرب سور نينوى، وتقع عليه بوابة المسقى. واستمرت الهجرة إليها من القبائل العربية في هذه الفترة، وهي قبائل تغلب وربيعة وعنزة وشيبان وخزرج.
تحت حكم الدولة العباسية، ثار أهالي الموصل على الوالي العباسي محمد بن صول الفارسي، ففُتك بأهلها، وخُربت بيوتها، ولما وصل الأمر إلى الخليفة السفاح عزله، وولى عليها عمه إسماعيل بن علي بن العباس، فأصلح حالها، وتحسن مركزها الاقتصادي في خلافة المهدي، الذي اهتم بالخدمات الداخلية، فنظم الطرقات، وأصلح الزراعة.
أصبحت الموصل تحت نفوذ الحمدانيين في أواخر القرن الثالث للهجرة، بعد دخولهم في طاعة العباسيين، وتوسعت المدينة، وأصبحت مركزا تجاريا مهما. وصارت تصدر إلى بغداد الدقيق والسكر والعسل والسمن والجبن والفحم والشحوم والمن والسماق والقير والحديد. كما توسعت حولها القرى والبساتين والمزارع.
انتقلت الموصل إلى حكم العقيليين، فتأخرت الحركة العمرانية والحالة الاقتصادية في المدينة؛ لتنازع الأمراء فيما بينهم على الحكم.
وبعدها أصبحت الموصل تحت نفوذ الترك السلجوقيين، ولاقت خلال حكمهم الويلات والمصائب والخراب، وهجرها معظم أهلها من ديارهم ومساكنهم؛ لكثرة الاضطرابات والفتن بين الأمراء، ومع هذا، فإن الموصل تزعمت الحروب الإسلامية ضد الغزوات الصليبية في تلك الفترة.
استلم عماد الدين زنكي حكم الموصل، فحظيت المدينة في زمنه وزمن خَلَفه باهتمام وتوسع كبير، وتقدمت في صناعتها وتجارتها وزراعتها وعمرانها. وفي عهد بدر الدين لؤلؤ، وصلت الموصل إلى أجمل صورها.
وارتبط تاريخ الموصل في تلك الفترة بشخص بدر الدين لؤلؤ، حيث ولي عليها في عام 1233م، وحافظ على ولائه الظاهري للخلافة، إلا أن ضغط الأحداث أجبره على موالاة المغول، ثم تحولت الموالاة إلى طاعة وتحالف.
توفي بدر الدين لؤلؤ في عام 1258، وخلفه ابن الملك الصالح إسماعيل، الذي هادن المغول أول الأمر، ثم انقلب عليهم، وطردهم من الموصل، فأرسل هولاكو إليه جيشا، فحاصره فيها، وراح يضرب المدينة. وعندما استسلم الملك الصالح إسماعيل، دخل المغول المدينة عام 1262، فاستباحوها، وعملوا فيها السيف، وقتلوا معظم أهلها، وهدموا أكثر من نصفها.
واستولى تيمورلنك عليها، وأكمل تدميرها فيما بعد.
بقيت الموصل تحت حكم القبائل التركمانية، حتى سيطر عليها سليمان بن السلطان سليم العثماني، وحاول قائد الجيش الصفوي نادر شاه أن يستولي على الموصل عام 1732، ويُقال إن الموصليين أقسموا على قتل جميع نسائهم فيما إذا غلبهم الصفويون، ولم يسمحوا للعدو من إحداث أي ثغرة في سور المدينة، بل كانوا يقيمونه بسرعة مذهلة ليلا فوق جثث قتلاهم. واضطر نادر شاه إلى عقد الصلح مع الوالي حسين باشا الجليلي، وغادر الجيش الصفوي، ولم يستطع دخول الموصل.
وعانت الموصل من الويلات، ومن أشهرها المجاعة التي دعيت “غلاء الليرة” عام 1878، حتى أكل الناس فيها الحيوانات والجيف. وعانت من مجاعة أخرى في نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1917، التي دعيت “سنة الغلاء”؛ نتيجة هزيمة الجيش العثماني في حربهم مع الإنكليز، الذين دخلوا الموصل 1918 دون قتال بعد الهدنة.
انتقلت الموصل إلى عهد الحكم الأهلي عام 1921 تحت ظل الانتداب البريطاني، وظلت مدينة الموصل ورقة رابحة بيد الإنكليز؛ للمساومة على الانتداب في المفاوضات التي جرت لتحديد خط الحدود بين العراق وتركيا، بالضغط على الحكم الملكي القائم لقبول صك الانتداب.
ورفض أهالي الموصل -خلال الاستفتاء الذي أجرته لجنة خاصة- الانضمام إلى تركيا، ودافعوا عن عروبتهم وتمسكهم بتراب العراق، وظلت الموصل في ظل الحكم الملكي حتى قيام “ثورة 14 تموز” عام 1958، التي أطاحت بالحكم الملكي.
شهدت هذه الفترة حوادث مهمة في تاريخها، منها انتفاضة الجيش في عام 1937، بعد اغتيال الفريق بكر صدقي رئيس أركان الجيش في مطار الموصل، ورفضت تسليم ومحاكمة الضباط المسؤولين عن الحادثة، ما انتهى بإجبار الحكومة على الاستقالة، وإعفاء الضباط من المحاكمة.
وكذلك حادثة اغتيال القنصل البريطاني في الموصل بعد قتل الملك غازي، في حادث نعت بأنه “مدبّر من قبل الإنكليز”. وشاركت الموصل في ثورة رشيد عالي الكيلاني هام 1941.
عانت الموصل من اضطهاد كبير في عهد عبد الكريم قاسم من الشيوعيين، وقتل عدد كبير من أبنائها الذين اشتركوا في “ثورة الشواف” عام 1959، وتم سحلهم في شوارع المدينة، وعاشت الموصل خلال هذه الفترة في فوضى وخوف دائم، وتوقفت الحركة العمرانية والتجارية، وكانت المدينة تغلق أبوابها مع غروب الشمس، ويلجأ الناس إلى بيوتهم خائفين غير آمنين على حياتهم.
بعد “ثورة تموز” بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي بقيادة صدام حسين ورفاقه، عملت الحكومة العراقية الخطط التنموية الصناعية والزراعية في المدينة، بالإضافة إلى بعض المشاريع التجارية، ومن المشاريع المهمة بناء سد الموصل، الذي سمي حينها بسد صدام.
وفي عام 2003، بدأت الولايات المتحدة الأمريكية حربها واحتلالها للعراق بمساندة دول أخرى، من أبرزها بريطانيا، وعانت فيها العديد من مدن العراق الدمار جراء المواجهات العنيفة بين الأطراف العديدة المتحاربة.
وسقطت المدينة بأيدي القوات الأمريكية بعد قصف عنيف في نيسان/ أبريل عام 2003، بعد أن انسحبت قوات الفيلق الخامس للجيش العراقي، وبعد يومين من سقوط بغداد.
وكانت قوات البيشمركة الكردية أحد الأطراف التي دخلت الموصل، وحاولت السيطرة على بعض أجزائها، وانسحبت القوات الكردية مجبرة، واستبدلت بها قوات أمريكية.
في تموز/ يوليو عام 2003، قامت قوات “التحالف” بقيادة الولايات المتحدة بالهجوم على “حي سكر”، وقتل ابنا الرئيس العراقي السابق عدي وقصي، اللذان كانا في مدينة الموصل.
واستمرت معاناة سكان الموصل؛ بسبب الصراع بين الجيش الأمريكي والجيش العراقي من جهة، والمليشيات والعصابات الطائفية من جهة أخرى. كما تعرض العديد من متعلميها ومثقفيها إلى عمليات اختطاف وابتزاز واغتيال، الأمر الذي أدى إلى تهجير العديد من مواطنيها إلى مناطق أخرى خارج الموصل أو خارج العراق.
شهدت الموصل احتجاجات مطالبة بخروج القوات الأمريكية بشكل كامل، واستقالة حكومة نور الدين المالكي الطائفية، ضمن سلسة الاحتجاجات التي شهدها العراق عام 2011.
وفي عام 2014، وقعت المدينة بالكامل بيد “تنظيم الدولة” وقوات محلية متحالفة معه، بعد انهيار الجيش العراقي وانسحاب القوات إلى كردستان.
في يوم آب/ أغسطس عام 2015، أحال البرلمان العراقي ملف سقوط الموصل إلى الادعاء. وحمّلت لجنة تحقيق برلمانية عراقية نوري المالكي و35 مسؤولا آخرين مسؤولية سقوط مدينة الموصل بيد “تنظيم الدولة”.
وفي 17 تشرين الأول/ أكتوبر، أعلن عن انطلاق معركة استعادة الموصل من قبضة “تنظيم الدولة”، بقيادة قوات الجيش العراقي، وبمشاركة قوات البيشمركة الكردية، وبإسناد من قوات “الحشد الشعبي”، وكذلك بإسناد جوي من طائرات قوات “التحالف الدولي”.
وجود قوات “الحشد الشعبي” أغرق العملية بأكملها بصيغة طائفية؛ نظرا للجرائم ضد الإنسانية التي اتهم بها “الحشد الشعبي” من قبل العديد من منظمات حقوق الإنسان الدولية، ومن روايات شهود وصحافيين وإعلاميين، واعتراف عراقي رسمي على لسان رئيس الوزراء.
النهب والسلب والاغتصاب والقتل والتعذيب والتنكيل بأعداد كبيرة من العراقيين في الموصل سيكون “سيد الموقف”، ضمن تكهنات استندت إلى طبيعة القوات المشاركة فيما أصبح يعرف إعلاميا” بمعركة تحرير الموصل”.
العالم يسلط الضوء على ما يتعرض له العراقيون في الموصل، ثاني أكبر مدينة في العراق، المدينة ذات الأغلبية السنية الساحقة. وتقدر الأمم المتحدة عدد من قد يتركون بيوتهم ويلوذون بالفرار من المدينة بما يقرب من مليون نسمة، وهؤلاء لن يكونوا بأمان بوجود المليشيات الطائفية، المتوثبة للتنكيل بأي شخص يخرج من المدينة.
يقول الكاتب البريطاني ديفيد هيرست إن “الاعتقال العشوائي، والتعذيب، والاختفاء القسري، والقتل غير المشروع، ليس جديدا في عراق ما بعد صدام. فهذه تكريت والفلوجة وأقضية مثل المقدادية في محافظة ديالا، التي ما لبثت تخضع لسيطرة الحكومة، شكلت نمطا يمكن أن يتكرر الآن على نطاق أوسع في الموصل. لا تعتبر تقارير منظمة العفو الدولية أو هيومان رايتس واتش مجرد مزاعم بوقوع جرائم حرب، بل هي أدلة دامغة على ارتكاب هذه الجرائم”.