يتأسس مفهوم المواطنة المتساوية في الفكر الإسلامي على مبدأ ومقصد الحرية، فالمجتمع الذي يؤمن بالحرية على أنها مقصد من مقاصد الدين ويعيش تحت شعار “لا إكراه في الدين” سيحترم ما اختاره أفراده من اعتقاد ومن مذهب، ومن يؤمن بحرية اختيار الآخرين -الذين يعيشون معه في مجتمع واحد- لما يروه مقنعا لهم فإنه لا يمكن أن يقول
المواطنة المتساوية:
يتأسس مفهوم المواطنة المتساوية في الفكر الإسلامي على مبدأ ومقصد الحرية، فالمجتمع الذي يؤمن بالحرية على أنها مقصد من مقاصد الدين ويعيش تحت شعار “لا إكراه في الدين” سيحترم ما اختاره أفراده من اعتقاد ومن مذهب، ومن يؤمن بحرية اختيار الآخرين -الذين يعيشون معه في مجتمع واحد- لما يروه مقنعا لهم فإنه لا يمكن أن يقول بحرمانهم من الحقوق ومن الفرص والتساوي أمام القانون العام الذي يشملهم جميعا، ولا يمكن أيضا أن ينقص من الواجبات التي يجب عليهم الالتزام بها تجاه المجتمع والدولة، فكل مواطن يتساوى مع كل مواطن آخر في الحقوق والواجبات، ما داموا في مراكز قانونية واحدة، وما داموا ينتمون لوطن واحد، وتلك هي خلاصة المواطنة المتساوية.
أما تفصيلات تلك الحقوق وتلك الواجبات فإنها تتأسس على أصل قرآني آخر في الفكر السياسي الإسلامي وهو أصل الشورى في الأمر “وأمرهم شورى بينهم”، فإدارة وتنظيم علاقتهم مع ولي الأمر شورى بينهم، وما دام الأمر كذلك فإن عليهم أن يفكروا ويستعينوا بكل تجربة إنسانية تحقق النظام الأفضل بين الفرد والدولة، فيسنوا القوانين في الحقوق والواجبات التي يتساوى فيها الجميع بعيدا عن التمييز بسبب الدين أو المذهب أو الجنس أو اللون أو المستوى الاقتصادي أو الانتماء السياسي أو الموقف الفكري.
وانطلاقا من ذلكما الأصلين (الحرية والشورى) كان اجتهاد النبي عليه السلام في مقام ولي الأمر في تنظيم المجتمع المدني، إذ كتب – كما تذكر كتب السيرة- “الصحيفة” بين المسلمين المهاجرين والأنصار وبين اليهود، وكان ذلك في السنة الأولى للهجرة. وقد أدرك عدد من المفكرين المعاصرين قيمة تلك الصحيفة أساساً لمفهوم المساواة بين المواطنين الذين يتساكنون في بلد واحد وتحت سلطة واحدة، من أمثال يوسف القرضاوي و محمد مهدي شمس الدين وحسن الترابي والصادق المهدي وراشد الغنوشي وطارق البشري ومحمد عمارة وفهمي هويدي وغيرهم، وإن كانوا لم يفصلوا فيها بما يكفي لحل كل أسئلتها التي سيطرحها عليهم التقليديون، فبقيت المسألة مشوبة بكثير من الأسئلة في تفاصيلها.
يقول المفكر التونسي راشد الغنوشي: إن دولة المدينة قد تأسست على دستور مكتوب اعترف بحقوق المواطنة لجميع المكونات الدينية والعرقية للسكان باعتبارهم” أمة من دون الناس” حسب تعبير “الصحيفة” حيث نصت على أن “اليهود أمة والمسلمين أمة” (أي أمة العقيدة) وأن “المسلمين واليهود أمة” (هي أمة السياسة أو المواطنة) بالتعبير الحديث أي شركاء في نظام سياسي واحد يخولهم حقوقا متساوية باعتبارهم أهل كتاب وأهل ذمة أي مواطنين حاملين لجنسية الدولة المسلمة من غير المسلمين. لقد تمتع سكان المدينة من غير المسلمين بحقوق المواطنة ومنها حماية الدولة لهم، مقابل أدائهم واجباتهم في الدفاع عنها، وكان إخلال بعض يهود المدينة بذلك الواجب، إذ تحالفوا سرا مع العدو القرشي الذي غزا المدينة مستهدفا الإجهاز على نظامها الوليد، هو مبرر محاربتهم وإجلائهم، وليس بسبب دينهم.
يمكن أن نستلهم من تلك الصحيفة المبدأ العام في التعايش بين مختلف المكونات، أما تفصيلات الحقوق والواجبات فيمكننا أن نجتهد اليوم بما يناسب الزمان والمكان وتغير الظروف والأحوال، فشكل الدولة اليوم تطور كثيرا عن شكلها قبل قرون، ويمكن أن تنظم اليوم الحياة السياسية بين المكونات المختلفة بطريقة تتناسب مع شكل الدولة اليوم. أما المصطلحات التي اختارها المسلمون في عصرهم فيمكن أيضا تجاوزها لمصطلحات أخرى ولا مشكلة في ذلك، خاصة إن شابت بعض الشوائب في المصطلحات القديمة وكانت المصطلحات المعاصرة أكثر دقة، فما سموه قديما بـ”الذمة” يمكن أن نسميه اليوم “المواطنة”، وهو ما عنونه المفكر المصري فهمي هويدي لكتابه “مواطنون لا ذميون”.
أما مفهوم الجزية الذي نص عليه القرآن فإنه لا يخص غير المسلم في البلاد الإسلامية كما يقوله التراث، ولا كما قاله بعض المفكرين المعاصرين من أنها بديلا عن الخدمة العسكرية، إذ الجزية -كما فهمتها من تأملي للآيات وسياقها- مشتقة من الجزاء، والجزاء يكون عند انتهاء القتال بين المسلمين وعدوهم المعتدي عليهم، فيأخذونها من عدوهم بعد انتهاء القتال، كعقوبة مالية كبيرة يدفعها العدو بعد انتهاء المعركة، فيدفعها مرة واحدة فقط، ولا يكرر دفعها، وذلك مقابل اعتدائه الذي أدى إلى خسائر في الأرواح والأموال من المسلمين، فتكون علامة خضوع العدو هي دفع الجزية حتى لا يفكر مرة أخرى في الاعتداء، والجزية تدفعها الدول لا الأفراد، وقوله تعالى: “وهم صاغرون” فيها إشارة إلى خضوع العدو المعتدي واستسلامه وصغاره جراء اعتدائه.
ولا يمكن تعميم هذا الصغار للأجيال التي جاءت بعدهم ممن يعيش بيننا اليوم من أهل الكتاب أو من غيرهم، فهم لم يعتدوا علينا ولم يحاربونا حتى نلزمهم بالجزية وهم صاغرون، والجزية عامة على كل من حاربنا وليست خاصة بأهل الكتاب فقط كما قيل في التراث.
ولكن قد يقول قائل: كيف تأخذ الدولة من المسلم الزكاة لتوزعها على المجتمع ويمكن أن تعطي الفقير حتى لو كان غير مسلم، ولا تأخذ شيئا من غير المسلم الذي يعيش مع المسلمين رغم أنه قد كسب أمواله من خيرات هذه الأرض. أقول إنه لا بد أن تأخذ منهم الدولة مالا كالمسلمين وليسموها ما شاءوا، زكاة أو ضريبة أو غيرها، ولكنها ليست جزية كما يقولون.
الخلاصة أن المواطنة هي العضوية الكاملة والمتساوية في المجتمع بما يترتب عليها من حقوق وواجبات، وهو ما يعنى أن كافة أبناء الشعب الذين يعيشون فوق تراب الوطن الواحد سواسية دون أدنى تمييز قائم على أي معايير تحكمية، ويترتب على التمتع بالمواطنة سلسلة من الحقوق والواجبات ترتكز على ما يلي: المساواة، والحرية، والمشاركة، والمسئولية الاجتماعية. وهذه المبادئ لا زالت بحاجة لمزيد من الجهد في التنظير والتقنين بحسب تنوع كل مجتمع.
أما المقومات الأساسية التي يقوم عليها هذا المفهوم فهي:
1. الجغرافيا التي مهدت الاتصال بين الشعب الواحد.
2. اللغة المشتركة.
3. الاشتراك في صنع الحضارة ومواجهة التحديات، وهي بمثابة القواسم المشتركة التي يلتقي عليها المواطنون بمختلف فئاتهم كخلفية أساسية لمفهوم المواطنة في إطار بناء دستوري وسياسي.
4. توفر الأمن والاستقرار المستند على ميزان العدل المستقيم بما للقوانين والأنظمة من سيادة ومساواة في التطبيق.
5. صلاحية المواطنة وقيامها على حقوق وواجبات متساوية.
6. وجود التوجه الجاد الذي يجعل كل مواطن يشعر بمسئولياته وواجباته.
7. أن يكون مبدأ الثواب والعقاب هو شوكة ميزان العدل النزيه.
كان هذا المفهوم هو الضلع الثالث من أضلاع مثلث العلمانية السياسية وقد لاحظنا أنه أيضا لا يتعارض مع أصول ومقاصد الفكر الإسلامي.