نحن جيل المقاومة التي أطلقنا سهام الإدانة وما زالت الحرب تحبوا هناك وما زالت في البعيد الأقصى؛ أطلقنا أبواق التحذير منها. من منا يحب الحرب ويسعى إليها وينشد فيها المعلقات؟!
من منا يُطربه لون الدم، ويحنُّ إلى صوت الرصاص والمدافع؟
من منا لم تعرف الدموع طريقها إلى خديه؟!
وهل أحد منا لم يطلق تأوهات القهر والحزن على كؤوس المنايا التي تسقينا الحرب إياها كل يوم؟
نحن جيل المقاومة التي أطلقنا سهام الإدانة وما زالت الحرب تحبوا هناك وما زالت في البعيد الأقصى؛ أطلقنا أبواق التحذير منها.
كان إعلامنا ومثقفونا وفنانونا ينتجون الأعمال الفنية لدعم التعايش ووحدة النسيج الوطني؛ في حين كان الآخر ينتج كل يوم زوامله المُمَجدة للحرب والمحتقرة للسلام.. ويستورد الأسلحة في غفلة من التاريخ اليمني المعاصر.
تلك هي الطريق التي دَفَعَنا الآخر إليها، وكان الشعب قد بذل جهوده المستميتة في تحاشيها.
وحين خضنا الحرب ورفعنا السلاح كان التاريخ يطلق علينا (مقاومة)، والمقاومة مصطلح يحمل في ثناياه تبرئتنا من وزر الاعتداء اوالابتداء في إشعال فتيل الحرب..
وتعني المقاومة أننا نملك الحق الأخلاقي في الدفاع عن كل تفاصيل ما يحفظ إنسانيتنا في وجه المبتدئ.
تلك هي السردية الواضحة والمتسلسلة لقصتنا مع الآخر، والتي تقف في وجه كل تسطيح في وضع حل لإنهاء الحرب، ويضعنا على قدم المساواة بيننا وبين من اعتدى علينا..
هذا التسطيح الذي قد يمثل سبباً إضافياً لإطالة أمد الحرب.
ندرك أنه قد تمر حالات من ضغط اللحظة الخانقة على نفوس المقاومين المنتشرين على طول التراب اليمني؛ تلك الحالة التي يعلو فيها صوت نداءات النفس وعواطفها المثخنة من ويلات الحرب؛ فتصعد إلى السطح تأوهاتنا الحالمة التي يطلقها اللاوعي، فتنشد عواطفنا العاشقة للسلام أن تضع الحرب أوزارها.
ولكي نكون موضوعيين فإن تلك حالة سيكولوجية (نفسية) طارئة واستثنائية يمر بها كل فرد من جيل المقاومة الكاره للحرب وويلاتها.
غير أنَّ تلبُّسها الإستثنائي بنا لا تعني صوابيتها ولا تُبرِّر أيضاً إخراجها إلى الوجود على شكل كتابات وخصوصاً من كُتّاب ومنظري المقاومة المعتبرين. فالطارئ يُطوَى ولا يُروَى.
ثلاثون مليون أمنية يكتنزها قلب كل يمني تتمنى نهاية الحرب، وتصعد دعواتهم في جنح الليالي تدعوا للسلام.
غير أن التاريخ يقول لنا: إن بعض الحروب كانت بوابة للسلام الدائم.
ومرارة خيار الحرب (المفروضة) لا تعني خطئها، خصوصاً وقد تأسست على يقينيات يعضدها المنطق والتاريخ والفكر والتجربة.
وعلى طريقة نيلسون مانديلا نبي السلام في القرن العشرين الذي قال: (إذا خرجت من السجن في نفس الظروف التي اعتقلت فيها فإنني سأقوم بنفس الممارسات التي سجنت من أجلها).
نقول إن تلك الظروف التي صنعها الآخر والتي يبدو أنها شرط ضروري ووجودي لحياة هذه الجماعة، هي من تجعل يقيننا يزداد تماسكاً في حربنا المقدسة.
يتذكر المجتمع في حربه هذه كم تحاشى طريق الحرب رغم الإذلال والقهر، وكم أعطى للطرف الآخر فرصته الكاملة في تقديم مشاريعه وسلوكه للناس.
وحين كان مبشرو الجماعة يحدثوننا عن صَعدة (المدينة الفاضلة)، كانت الأسلحة الناعمة من كتابات بعض النخبة والاعلاميين والمثقفين تبشرنا بأنها ثورة الشعب من الشعب وإلى الشعب.
كانت تلك “البروباغندا” على أُوجِّها رغم أن كل المقدمات النظرية والإمبريقية (التجريبية) في وصول هذه الجماعة إلى السلطة وإحتكارها الشوفيني للقرار السياسي، تؤشر إلى سنوات الظلام التي سيقودنا إليها تحالف الإنقلاب.
وحين صعد التحالف الإنقلابي إلى سدَّة السلطة انكشفت عورته لكل أبناء المجتمع وأوصل سلوكهم السياسي والفكري والاقتصادي والإجتماعي والديني. أوصل المجتمع إلى حالة من اليقين الجمعي بحجم الكارثة التي نتجرعها وسنتجرعها وتتجرعها الأجيال القادمة إن نحن ألقينا السلاح وجنحنا إلى السلام الزائف.
بدأت الحرب بين فكرتين تنتمي إحداها إلى الإنسان وحقوقه وكرامته وتاريخه وإرثه القومي وتطلعاته نحو آفاق العدالة والحداثة والتمدن، وأخرى تسعى لتجريدنا من حرياتنا وتحويلنا إلى كائنات هامشية تدور في فلك العصبة والطائفة وتلغي اليمني ليحل محله الاسري الطائفي وتلغي العروبة لتحل محلها الفارسية وتبني فكرنا السياسي على دوغمائية تقتل العقل وتعطلُّه وتكبت كل عاطفةٍ نبيله نسعى للتعبير عنها.
ذلك هو يمنُ الخوف والكبت والإنتهاك وموت الأحلام؛ يمن الإغتراب والتخلف وحيونة الإنسان الذي اصطف الآخر لفرضه علينا.
قامت الحرب إذاً بين تلك الفكرتين كعنوانين عريضين.
أو بالأصح أوقدها الآخر المتلهف بزوامله وخطابه الإعلامي نحوها.
ونشأ لكل فكرةٍ حواملها؛ هذه الحوامل التي تحتاج من إعلامييها ومثقفيها ومنظريها إلى ترسيخ هذه اليقين الذي قام عليه خيار الحرب.
اليقين الذي ينقل الجيل المقاوم من حالة الصبر إلى حالة المصابرة والمرابطة ومن ثم كسر إرادة الخصم والإنتصار لأحلامنا بإذن الله..
وهذا هو التواصي الذي تحدث الجليل سبحانه عن ركنيه في سورة العصر.
تواصي بالحق: يستهدف حماية الفكره من مِعوَل الشبهه والتلبيس.
وتواصي بالصبر: يستهدف حماية النفس المناظلة من الملل والنكوص وقلة الصبر.
كما أن الحديث عن ضعف الحوامل وسوء ادارتها لمواردها في ادارة دفة الحرب وتأخر وقت الإنتصار.
لا يعني هشاشة الفكرة التي نصطف خلفها ولا يعطي لنا مبرراً لإهتزاز اليقين المسكون في دواخلنا؛ حتى و(في أسوأ الخيارات).
إن وقف التاريخ في وجوهنا ومُنينا بالهزيمة؛ هل تموت هذه الأفكار التي تنتمي إلى الإنسان وحقوقه وتطلعاته؟!
لا تقول سنن الله ذلك، بل يحدثنا التاريخ أن الأفكار النبيلة لا تموت وإن هُزمت حواملها. وعليه فإننا (جيل المقاومة) لسنا المعنيين بالحديث عن القاء السلاح والعودة للحوار.
إذ أنّ مطالبنا المشروعة وإصطفافنا الذي لا تهتز يقينياته، تجعل الطرف الآخر هو المَعني بإيجاد صيغة لإنقاذ نفسه وستر عورته وكف الأذى عنا والفرار من وجه بنادقنا المقاومة.
نقول هذا الكلام ونحن ندرك بل ووصلنا اليقين: بأن هذه الحرب ليست نزهة،
يدرك الشعب ذلك وهو يتغصص كوابيسها ويتجرع لياليها المضمَّخة بالأنين والوجع لكنه في المقابل يُدرك أن الحرب ليست خياراً عبثياً يمكن التراجع عنه دون تحقيق أهدافه وتطلعاته المشروعة.
خيار سقط فيه آلاف الشهداء والجرحى، ويقضي خيرة أبنائه أيامهم خلف قضبان السجون الفاشية.
للمهاتما غاندي قديس السلام فلسفته العميقة وهو يتحدث بواقعية عن خيارات الضرورة التي يحفظ بها الإنسان والأمة عارهما من المساس: (أعتقد أني لو خيرت بين الجبن وبين العنف، لاخترت العنف. فأنا أُفضِّل أن تلجأ الهند إلى السلاح دفاعًا عن شرفها على أن تبقى أو أن تكون، بطريقة جبانة، شاهدة على عارها).
الحرب أهون من العار.. والعار هو الكابوس الأفظع، وسنرى في ليالينا (المليئة بكوابيس الحرب)، كوابيساً أشد إيلاماً عن رمزيةٍ لوطنٍ يأتينا في المنام
يُعرِضُ عنَّا
ويعاتبنا بمراره قائلاً:
(إنّكم لم تحتملوا أكثر من عامٍ ونصف للدفاع عني)!