الواقع والجمهورية في اليمن.. قراءة في كتاب عبدالله البردوني
بمقدور الكاتب أن يكون شاهداً على التاريخ إن كان أميناً، ذاكرة عصره الّتي توثق أعظم الانعطافات والتحوّلات والمفارقات، ليس في الشأن السياسي فحسب، بل في كل شؤون ومناحي الحياة، توصلت إلى هذه القناعة وهذا الاستنتاج بعد أن انهيت القراءة الفاحصة لكتاب اليمن الجمهوري للراحل عبدالله البردوني.
بتقادم السنوات تكتسب بعض الأعمال خلود، إذ أن الأحداث التي قالت تكتسب مغزي عصري وكتاب اليمن الجمهوري من هذا النوع، رغم مرور العقود عليه، ومروره بين ثورتين القديمة والجديدة إلاّ أننا نلحظ تلك الأحداث في واقعنا اليوم، وأخطاء الأمس تكررت بالفعل، وكذلك قابلة للتكرار في المستقبل إذا لم ننتبه لها ونعمل جاهدين على تفاديها.
الزمن لعب دوراً هاماً في الكتاب، فمن خلال الألمامة البعيد والأرومة يُبصّرنا البردوني بهذه الحقيقة؛ حقيقة زمن الفترة الذي يقاس بصناعة الأثر والإنجازات الّتي يحققها شعباً من الشعوب أو حضارةً من الحضارات، زمن السنين عندي البردوني هامشي ولايُبنى عليه شيء؛ لأن هذا الزمن الهامشي هو السرداب الذي يفضي منه رسوب أمةٍ ما في الحياة، فالأمة التي تستفيد من أخطاءها لسببٍ ما فإنها أمة ستظل في ذيل الأمة، كسيرة وكسيحة وعاجزة عن صناعة المصير لشعبها، تعاني من التشابه والتكرار، فالغد يعود إلى الأمس دائماً، فيما يحدث العكس مع الأمة التي تستفيد من أخطاء الأمس وتوظفه لصالحها.
الكتاب ذا سردية تأريخة، تم خروجه إلى الحياة 1997م، في، ٥٤٤ صفحة، مقسمة على 11 فصل..يبدأً بمقدمة الإلمامة من بعيد، حيث يستنهض فيها الأحداث الغافية في الحضارات اليمنية القديمة- السبئية والحميرية- مسلطاً الضوء على انهيار سد مأرب للمرة الخامسة على التوالي، حيث يعلل ذلك بضعف وهشاشة الدولة.
في الفصل الأول بعد الإلمامة تناول محفزات قيام الثورة اليمنية وأساس البحث عن الجمهورية من بدايتها، ثم تطرق إلى الدور المنوط بالإمام يحيى في توطيد المذهب الزيدي بعد دخول المذهب الهادوي إلى اليمن.
فيماتحدث في الفصل الثاني عن تفجرات المناطق القبلية التي كانت ترى التغيير إلى أن الإمام كان يخمدها فور اندلاعها، وتحدث هذا الفصل بشكل منصف عن ثورة المقاطرة التي تعد من أهم الثورات في التاريخ اليمني.
ويركز الكاتب إلى دور الثقافة في دعم الثورة، وقدرتها على رسم التاريخ إذ كتبت بإنصاف، ويستقرئ الكاتب دور الشعر في نقل المعارك التي خاضها الأئمة ضد الزرانيق والمقاطرة أو القبائل إذ أنها كانت تتسم بنوع من تمجيد القوي على الضعيف.
ويتحدث الفصل الثالث عن مسيرة الأحزاب في اليمن، وكيف بدأت بتنظيمات سرية، وبجهود بسيطة؛ سواء في الشطر الجنوبي الراغب في الانعتاق من الاحتلال البريطاني، أو الشطر الشمالي الرازح تحت وطأة الإمامية المستبدة؛ وينوه الكاتب بشكل منصف إلى دور الإمام يحيى ذي الثقافة الموسوعية إذ أن بفترته ازدهرت العلوم الدينية والأدبية على عكس فترة حكم ابنه أحمد.
ويحكي الفصل الرابع عن تنظيم الاتحاد اليمني؛ كيف بدأ كجمعية سميت بجمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهي وسيلة تتناسب مع تلك الفترة، إذ أنها طالبت بإصلاحات بسيطة تحت دعوى الشريعة وإن كانت تبطن انتقاد الإمام على سياسته المنغلقة وقتذاك.
ويؤرخ الكاتب التغيير في الوسيلة والخطاب لهذه الجمعية التي تعد أول تنظيم سياسي في عمر اليمن، واستمرت حركة الجمعية التي تحولت فيما بعد إلى الاتحاد اليمني حوالي 34 عامًا ؛ وانتهت عام 74 على يد حركة 13 يونيو، ومثل هذه التجربة الوليدة تستحق التأمل، متحدثاً عن دور الشرائح المهمة في المجتمع اليمني ويرصد دورها في تأجيج الثورة وقلب موازين المعادلات، حيث شارك الجنود في السقوط المبكر لحكومة 48؛ كما شاركوا في انقلاب 55، وانضموا للثوار والطلاب في 62.
فصيل الطلاب تحرك بشكل ملفت بعد أن انتشر الوعي قبل أحداث 62، والجميل في هذا الكتاب أنه لم يغفل دور المرأة اليمنية في صناعة الأحداث على مر التاريخ؛ إذ عدد مجموعة أسماء لأعلام من اليمنيات مثل: الملكة أروى بنت أحمد الصليحي. الشريفة دهماء، فقيهة. صفية بنت المرتضى، فقيهة. فاطمة بنت علي، مصلحة اجتماعية. زينب الشهارية، أديبة وسياسية. نخلة الحياسية. عوقت الجيش التركي مع بعض بنات صنعاء لمدة عشرين يومًا. ذكر أيضاً دور نساء المقاطرة اللاتي هاجمن حرس الإمام دفاعًا عن بلادهن مع أزواجهن.
أمّا الفصل السادس فيتحدث باستفاضة عن حركة 48 وأسباب سقوطها مبكرًا بعد قيامها بثلاثة أسابيع وحسب، وذلك لعدم إشراك الشعب فيها استنقاصًا لأهليته من قبل النخبة التي نفذت تلك الحركة.
على الضفة الأخرى سوء التخطيط وتقدير الأمور لعبا دورًا أساسيًا في شحة الموارد مبكرًا عن صنعاء مما أدى إلى سقوطها المدوي ما إن جاءها أحمد مستعينًا ببعض القبائل الموالية؛ كما تضارب رأي القيادة في الجنوب والشمال مؤثرا على تنفيذ الخطة المرسومة؛ فلم يكن من المخطط قتل الإمام أحمد وفوجئ بعض الثوار كالزبير ونعمان بذلك الخبر.
وتأثر مثقفو تلك الفترة بكتب محددة كانت متاحة لهم، أو كتب أخرى اتسمت بالثقافة التقليدية؛ غير أن ما دفعهم للخروج على الحاكم هو رغبتهم في تغيير الواقع
ويؤكد البردوني من خلال هذا الفصل على أن الثقافة المتفشية في تلك الفترة كانت ثقافة سلفية تمامًا كون الدين هو المعيار الأساسي لتقلد الوظائف بغض النظر عن الكفاءات، وأن الكتابات التي تناولت تلك الفترة لم تراعي حقيقة شحة الكتب، من ناحية أخرى تأثر مثقفو تلك الفترة بكتب محددة كانت متاحة لهم، أو كتب أخرى اتسمت بالثقافة التقليدية؛ غير أن ما دفعهم للخروج على الحاكم هو رغبتهم في تغيير الواقع.
ويسرد الكاتب في الفصل السابع مجموعة من الحركات الهامة والتي لم تدون ضمن كتب التاريخ كونها صنفت بأنها ثانوية أو ليست على قدر من الأهمية كونها لم تخلق حدثًا مباشرًا؛ لكن هذا لم يمنع البتة أنها شاركت في حدوث شرارات أدت إلى ثورة 62، ومن تلك الحركات حركة ذمار بقيادة عبد الله الديلمي الذي استفاد من سوء اختيار الإمام للعامل في ذمار ليبث سخطه على الإمام بالتملل من عامله في ذمار (علي الهمداني)؛ وكيف أن اليمن فوجئت بتلك الصرخة التي انبعثت من ذمار معقل الشيعة في اليمن.
يتحدث الفصل الثامن عن الازدواجية والثنائية في انقلاب مارس 55، والتي نفذها الإمام عبد الله بالتعاون مع الثلايا وفشل بسبب عدم التنسيق بين مختلف المعسكرات، ويشير الكاتب إلى الازدواجية في العقلية الثورية إذ أنها في مرحلة من المراحل زجت بنفسها في أتون الخصامات العائلية ووقفت مع إمام ضد آخر!
الفصل التاسع يتحدث عن ثورة 62 ويشرح الخطوط التي تدفق منها سبتمبر، ويتحدث عن تطور حركة القوى القبلية والعسكرية في اليمن؛ إذ أنها بدأت خصاماتها فيما بينها؛ ثم اتحدت ضد الأتراك، ثم اتحدث تحت لواء الإمامية، ثم استقلت بنفسها وصارت جزءًا من الشعب وذلك لارتفاع نسبة الوعي بين صفوفها.
الجمهورية الأولى بدأت منذ 62 وحدث فيها صراع بين الملكين والقوات المصرية التي جاءت لتساعد الجمهوريين في اليمن، والجمهورية الثانية قامت في 67ولكنها سقطت بسبب الخلافات المتفاقمة بين صفوف الثوار أنفسهم، الجمهورية الثالثة قامت في 77 وكافحت لتواصل جذوة الثورة اشتعالها، وذلك بعد أحداث 12 يونيو 74، وأشار الكاتب في نهاية هذا الفصل إلى مجموعة من الأخطاء التي وقع فيها الثوار في تلك الفترة لنقرأها ونستفيد منها؛ منها: ركزوا على الإمام ولم يركزوا على الوضع والبديل القادم.
وأكد على أن الثورة يجب أن تسير في خطين متوازيين؛ حرب الحرب؛ أي مقارعة القوى الظلامية؛ وإن تم التركيز على أحدهما وأهمل الآخر لم تنجح الثورة في شيء.
يتحدث الفصل العاشر عن مشاكل اليمن الجمهوري، منها ما هو أخطاء موروثة مثل الاتحاد على هدف واحد وهو إسقاط الغمام، وغياب الرؤية عن البديل الأنسب، والمعايير التي يجب أن تؤخذ في بناء الدولة الجديدة.
كما تحدث عن حقيقة أن الفساد استشرى في عهد الثورة مما قاد إلى تساؤل حول حقيقة أهمية الثورة من عدمها!
كما أكد هذا الفصل على أن تحقيق مرحلة التجاوز هو مسؤولية جماعية لا تقع على عاتق فئة دون أخرى، كما تساءل حول حقيقة استفادة البعثات الدراسية للطلاب اليمنيين في الخارج، وأهمية وجود الخبراء لحل المشاكل الوطنية! وذكر أن البعثات لا قيمة لها إن لم تنبع من احتياجات البلد نفسه؛ أما مشكلة الخبراء ستظل قائمة كونهم يفتقرون إلى الإدارة المحلية، وأكد على أن الاهتمام بقضية الأمن يأتي على رأس مطالب التنمية فلا قيمة لقطاع التنمية في التعليم والصحة طالما بقي عصب الأمن تالفًا!
وحمل هذا الفصل عنوانًا عريضًا؛ الديمقراطية بين الإعلان والممارسة، إذ أنها كانت عنوانًا فضفاضًا يستخدمه الساسة والمثقفون اليمنيون دون أن يتفقوا على معاييره، لهذا فشلت كثير من المحاولات للوصل إليها حتى اللحظة.
الفصل الحادي عشر تكلم باستفاضة عن الوحدة وكيف تمت؛ ثم تحدث عن رؤساء اليمن الجمهوري وسرد بعض سيرتهم ونضالهم الثوري، وأكد الكاتب ضمن سياق هذا الفصل على مفهوم الثائر من حقيقته إلى تحقيقه، فحقيقته لا تكفي وإنما تحتاج إلى معايير ليكون ثائرًا حقيقيًا؛ أبرز تلك المعايير هو أن يقدم مصلحة الوطن على مصلحة أي شيء.
يعد هذا الكتاب ضمن الكتب المهمة التي بإمكانها أن تشكل الوعي المجتمعي اليمني على يقظة لأهدافه ووجوده؛ كما أنه يعمل على خلق سلسلة متصلة من الوعي الثوري الذي بدأ منذ ثورة 62؛ بحيث ينقل خبرة الآباء للأبناء والأحفاد، ويذكرهم بالأخطاء التي وقعوا بها لنتنبه لها لا أن نسقط فيها ثم نلوم التاريخ أنه لم ينقل لنا تلك الأخطاء؛ والعيب هو أننا لم نقرأها بعين العظة والعبرة.