كتابات خاصة

قلاع رملية.. المجلس الرئاسي الهش وصراع وحدة الصف

على مدى سنوات، رفعت القوى المنضوية تحت إطار السلطة المعترف بها دوليا، شعار “توحيد الصف الوطني”، باعتباره قاسما مشتركا لاستعادة الدولة، غير أن هذا الشعار تحوّل تدريجيا من وسيلة لهزيمة الحوثيين إلى مشكلة قائمة بذاتها، تغذيها الصراعات البينية والمصالح الضيقة.

بعد تشكيل “مجلس القيادة الرئاسي” في أبريل ٢٠٢٢، ساد بعض التفاؤل بإمكانية توحيد الجهود، خاصة مع انضمام قوى عسكرية كانت خارج إطار السلطة، مثل “المقاومة الوطنية”، و “قوات العمالقة”، لكن سرعان ما تبخرت الآمال، حيث تراجع الهدف من كونه وسيلة لإنجاز غاية وطنية، إلى هدف متعثر بسبب الخلافات.

بعبارة أخرى، فإن نموذج القيادة الجماعية، الذي كان يُنظر إليه كأداة لتعزيز التعاون، قد أثبت محدودية فعاليته إن لم يكن فشله، ويعزز الانطباع بأن الشعار تم استغلاله لخدمة أهداف سياسية محدودة، مثل تقاسم السلطة، دون الالتزام الجاد بالهدف الأساسي.

إن توحيد الصفوف ليس مجرد شعار يُرفع، بل ضرورة وطنية تفرضها طبيعة المعركة مع خصم موحد يمتلك استراتيجية واضحة، مما يستلزم تجاوز الخلافات الثانوية، وتحمّل المسؤولية، وتوجيه الجهود نحو تحقيق اصطفاف حقيقي يثمر عن نتائج ملموسة على الأرض.

من غير المقبول أن تستمر القيادات السياسية والعسكرية في رفع شعار وحدة الصف بينما هي المسؤولة الأولى عن تجسيده. فمن يدير السلطة، يملُك الأدوات والموارد اللازمة لتحقيق ذلك، لكن غياب الإرادة الحقيقية يقوّض هذه الجهود. من المثير للانتباه، أن الشعب يبدو أكثر التزاما وحرصا على وحدة الصف من القيادات نفسها، التي تدعوه للتوحد بدلا من اتخاذ خطوات عملية تثبت جديتها في هذا الإطار.

رغم التصريحات المتكررة من أعضاء المجلس الرئاسي وقيادات الأحزاب بشأن أولوية مواجهة الحوثيين، إلا أن الواقع يعكس أولويات مختلفة لكل طرف، حيث يسعى كلٌ منهم لتعزيز مكاسبه السياسية والعسكرية، ويتجلى ذلك في الخلافات المتكررة على المصالح التي تستنزف الموارد و تُهدِر الفرص واحدة تلو الأخرى.

من ناحية أخرى، لم يعد هناك من معنى للتصريحات التي تنفي وجود الخلافات التي باتت واضحة للجميع، وعوضا عن الاستمرار في هذا النهج السلبي، ينبغي التحلي بالشفافية والمصداقية، مع الاعتراف بالأخطاء، والتخلي عن المصالح الضيقة لصالح الأهداف الوطنية الكبرى.

إن تحقيق التوحد الفعلي يستلزم اتخاذ خطوات جادة تبدأ بدمج التشكيلات العسكرية تحت مظلة وزارة الدفاع، وخضوعها لقيادة موحدة وغرفة عمليات مشتركة. وبدلا من القيام بذلك، لا يزال كل طرف يعمل وكأن له دولة مستقلة، مع جيش وأمن واستخبارات خاصة به.

وفي هذا السياق، من الأهمية بمكان التوافق على رؤية سياسية واحدة للتعامل مع الحوثيين، وهو أمر يبدو بعيد المنال حاليا، خاصة في ظل تعنت بعض المكونات، مثل “المجلس الانتقالي”، الذي لا يكتفِ بالمطالبة بوفد مستقل في التفاوض، رغم  كونه جزءا من السلطة، بل يطرح رؤية تضمن التقسيم.

إن الحديث عن هذه المتطلبات الأساسية لا يغفل التحديات التي تعرقل توحيد الصفوف، وهي مزيج من الصعوبات الداخلية والخارجية، وما يهمنا هنا هو الفشل في التغلب على النوع الأول من هذه التحديات، والذي يُمكن تلخيصه في عنصرين أساسيين:

الأول: الخلافات الداخلية التي تهدف إلى تعزيز المكاسب الخاصة، حيث يظهر بعض الأعضاء اهتماما أكبر بتوسيع نفوذهم السياسي أو العسكري بدلا من تحقيق الأهداف المشتركة. وكمثال على ذلك، الاقتحامات المسلحة المتكررة لمقر الرئاسة بعدن.

الثاني: غياب التوافق الداخلي، وهو ما يتجلى في عجز المجلس عن إعداد لائحته الداخلية التي تنظم عمله، وإذا كان المجلس غير قادر على التعامل مع مسألة بسيطة كهذه، فكيف سيتمكن من مواجهة التحديات الكبيرة؟

لقد تحوّلت جهود توحيد الصفوف إلى معركة داخلية بين القوى المناهضة للحوثيين، بدلا من أن تكون وسيلة لهزيمتهم. على سبيل المثال، أصبحت اجتماعات المجلس، التي يُفترض أن تسفر عن تنسيق الجهود، إلى مناسبات لتسليط الضوء على الخلافات. وفي بعض الأحيان، استدعى الأمر تدخل سفراء الدول الكبرى المعتمدين لدى اليمن، لتقريب وجهات النظر. وأبرز مثال على ذلك، ما حدث في الأيام الأخيرة في الرياض، حيث تم جمع الأعضاء من الداخل والخارج لعقد الاجتماعات ومناقشة القضايا الداخلية.

ونتيجة لهذا الواقع، تراجع الزخم العسكري ضد الحوثيين منذ تشكيل المجلس، وسيطر الشلل الإداري والسياسي، بحيث أصبح التركيز على إدارة أو احتواء الخلافات الداخلية كما قال عضو المجلس عبدالله العليمي، بدلا من مواجهة التحديات الوطنية.

على الصعيد الخارجي، بدلا من أن يركز المجتمع الدولي دعمه للمجلس لاستعادة السيطرة على البلاد، كما كان الحال في عهد الرئيس هادي، تحوّل اهتمامه إلى حل الخلافات الداخلية بين أعضاء المجلس والعمل على توحيدهم. وهذا يعني أن المجلس بات يشكل تحديا إضافيا، مما استنزف جهود تحقيق الهدف الأساسي.

ومن المؤسف أن النقاشات بين السفراء وأعضاء المجلس أصبحت تدور حول توحيدهم، بعد أن كان يُعتقد أن دمجهم في السلطة سيسهم في تحقيق الهدف الأكبر، وهو إنهاء انقلاب الحوثيين. لكن النتيجة كانت تقديم صورة غير مقنعة للأطراف الإقليمية والدولية، مما جعلهم يشككون في قدرة المجلس على أن يكون جديرا بالدعم لتحقيق السلام والاستقرار.

إن استمرار المجلس بهذا النهج، يعني إهدار فرص استعادة الدولة وتمكين الحوثيين من تعزيز سيطرتهم وإطالة معاناة المواطنين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى