حرية المعتقد
ناقشت في مقال سابق الضلع الأول من أضلاع العلمانية في بعدها السياسي، هل يتصادم مع الفكر الإسلامي أم يتوافق؟ ووصلت بعد تلك المناقشة إلى أنه لا يتصادم مع الفكر الإسلامي لأنه لا يوجد في فكرنا إلا سلطة واحدة هي السلطة السياسية التي تدير الأمر الدنيوي بالتشاور، ولا يوجد لدينا سلطتان تتنازعان إدارة شأن الناس، وفي هذا المقال سأقف مع الضلع الثاني من أضلاع العلمانية وهو حرية المعتقد.
باعتقادي إن فكرة الحرية هي الفكرة المركزية في التعايش، فمن آمن بها آمن بما يرتب عليها من حقوق الآخرين المختلفين ومن لم يؤمن بها لن يؤمن بتلك الحقوق، وما لا يدركه بعض المتدينين المتعصبين أن الحرية أيضا الفكرة المركزية في الدين، فعلى أساسها كلف الله الإنسان بعمارة الأرض، وعلى أساسها دخل الإنسان اختبار الدنيا لينال النتيجة في الآخرة، وهي الميزة الأساسية التي تميز الإنسان في هذا الكون.. لقد كانت لحظة فارقة مهمة حين تحمل الإنسان هذه الأمانة على عاتقه بعد أن أبت السموات والأرض أن يحملنها وأشفقن منها، ذلك لأنها ليست حرية تنتهي إلى العدم، وإنما هي حرية مسؤولة، يسأل عنها بعد اجتيازه لهذه الحياة الدنيا إلى الآخرة، فيسأل عن حرية الاختيار التي منحت له، هل سلك بها طريق الحق والخير والجمال أم سلك بها طريق الباطل والشر والقبح؟ ذلك السؤال المهول هو سر ذلك الإشفاق من المخلوقات (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ) الأحزاب: 72.
إن تلك الحرية المسؤولة ليست مفتوحة على مصراعيها وإنما لها شقان في السؤال: أما أفعال الخير والشر وهي السلوكيات التي يشترك فيها مع الناس ويمكن أن يصيب شرها الناس والمجتمع فإن لها سؤالين: سؤال في الدنيا يسأله المجتمع والقضاء، وسؤال في الآخرة يسأله الله ويحاسبه عن الخير والشر؟ أما اعتقاد الحق أو الباطل أو الأفعال التي لا تؤذي أحدا فإن سؤالها في الآخرة فقط.
إن أولئك الذين يريدون أن يكرهوك على فكرة ما ربما لا يعرفون أنهم يقفون أمام أهم قضية على أساسها ستحاسب في الآخرة، إنهم يقفون في طريق الله الذي منحك الحرية ليسألك ويحاسبك، فإن أكرهوك فلا سؤال ولا حساب. إن المصيبة ستكون أعظم إذا كان أولئك الذي يقفون ضد الحرية يدّعون ذلك باسم الله، إنهم ربما لا يعرفون أنهم قطاع طرق، يقطعون الطريق إلى الله.. لست أدري لماذا يكرهون الناس على اعتناق دين أو مذهب ما ويكرهون ويرفضون إكراههم على تغيير مذهبهم! إن كانوا يعتقدون أنهم على الحق المبين فغيرهم يرى ذلك أيضا وعند الله يتم الفصل بينهم.. لست أدري ماذا سيقولون أمام الله في الآخرة؟ هل سيتذرعون بأنهم كانوا يحمون دينه!! وهل كان دينه بحاجة إلى حماية؟ وهل الله بحاجة إلى حراس أو وسطاء؟ ألم تكن الأصنام إلا واسطة أيضا؟!
ألا يقرأ أولئك آيات القرآن الكثيرة الواضحة التي تعني بالحرية، أم أنهم تركوا تلك الآيات ليتمسكوا برواية أو اثنتين كتبتا بعد قرنين من زمن النبي، فيهما من الإشكالات في سندهما ومتنهما ما يعملوه! لماذا يخافون على الدين من أي سؤال يطرح؟ ألم يعرض القرآن كل شبهة طرحت عليه وعلى الرسول؟ ثم ناقشها وأجاب عنها دون أن يقول للناس اقتلوا صاحبها لأننه يشكك في الدين.. هل من الأولى أن تخرج الأسئلة للعلن فتناقش أم تحبس وتتجمع ثم تتجه بصاحبها إلى النفاق؟ ألم يقل القرآن (فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ)، أليست دعوة مفتوحة للحرية حتى لو جاءت في سياق التهديد، لأن نفاذ التهديد سيكون في الآخرة لا في الدنيا؟ ألم يجعل القرآن قضية الكفر والإيمان من القضايا الشخصية التي لا دخل لأحد بها؟ وأن وظيفة الأنبياء هي البلاغ والإنذار والتبشير فقط؟ ألم يقل لنبيه (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ* لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ) الغاشية: 21-22 (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ) ق: 45 (مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ) المائدة: 99؟
ألم يعلنها القرآن صراحة (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)؟ أليست هذه الآية –بحسب الأصوليين- نكرة في سياق النفي، والنكرة في سياق النفي يفيد العموم؟ وهذا يعني أنها تستغرق النفي لكل أنواع الإكراه، فلا إكراه على قبول الدين ولا إكراه على الخروج منه ولا إكراه على البقاء فيه.. فكيف تخالفون القرآن وقواعد اللغة وتكرهون الناس على الدين وكيف تخصصون الآية القطعية دلالة وثبوتا برواية ظنية ثبوتا ودلالة ؟!
من أين جاء حد الردة المزعوم والقرآن يحدثنا عن الردة ويتوعد أهلها في الآخرة فقط(وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) البقرة: 217(وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) البقرة: 217. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) المائدة: 54.. أيهما نصدق الآية التي تقول (وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ) البقرة: 108، أم الرواية التي تقول (من بدل دينه فاقتلوه)؟
ألم يتأملوا تلك الآيات التي لا يمكن أن تجتمع مع القول بحد الردة المزعوم؟ إذ كيف سيكون حد الردة والآيات تتحدث عمن كفر ثم آمن ثم كفر؟ فكيف يقال بذلك الحد وقد بقي حيا حتى يكفر للمرة الثانية؟ ألم يكن حد الردة سيجعله في عداد الموتى؟ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ) آل عمران: 90.(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) النساء: 137،(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) المائدة: 54.. أوليس سكوت القرآن عن عقوبة دنيوية للمرتدين بعد أن ذكرهم في عدة آيات دلالة على عدم وجود هذه العقوبة إطلاقا؟
ألم يكن في مدينة الرسول منافقون ينخرون في الدين من داخله وقد علم النبي بفريق منهم ومع ذلك لم يعاقب أحدا بما تزعمون؟ ألم يكن مجتمع المدينة خليطا من اليهود والمشركين والمؤمنين؟ ألم يذكر القرآن فريقا كانوا يصرحون بالإيمان أول النهار ثم يكفرون آخره بغرض هز الناس في دينهم؟ فهل نالهم حد الردة؟ ألم يرتد زوج رملة بنت أبي سفيان في الحبشة كما تقول الروايات ومع ذلك لم يقم عليه الحد؟ ألم يرتد بعض من دخل المدنية بعد أن آمنوا ثم قالوا: أقلنا عثرتنا يا رسول الله فأقالهم، ثم ذهبوا تاركين الدين؟
بعد هذا كله هل ما زال عاقل يؤمن بما اخترع لاحقا لأسباب سياسية من عقوبة سموها عقوبة الردة؟ باعتقادي إن تجاوز هذه المسألة هي المفتاح الأساس للإيمان بالحرية في مجتمعاتنا الإسلامية، والإيمان بالحرية هي المفتاح الأساس للتعايش بين كل المختلفين، وهي النقطة المركزية التي تستحق أن يناضل من أجلها المناضلون.
خلاصة القول إن حرية المعتقد كما هو أصل في العلمانية هو أيضا أصل في الإسلام ولا تعارض بينهما.