الأغنية اليمنية الجديدة: محاولات شبابية لملء فجوة مع العالم
يمن مونيتور/العربي الجديد
افتتحت الانتفاضات العربية العقد الثاني من الألفية، مُفسحةً الطريق لطموح الشباب بالتغيير، ابتداءً بالسياسة وليس انتهاءً بالفنون، وعلى رأسها الموسيقى. تحولات أفضت إلى ظهور تيارات موسيقية جديدة على غرار الأندرغراوند. أما في اليمن، فظهرت أغنية حديثة على طريقة البوب، لكنها لا تزال فضاءً يلقي عليه الجمهور اليمني غضبه.
أخيراً، أعادت أغنية “حبيبي حلاه يشذف”، التي صدرت في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، العلاقة الملتبسة إزاء الحداثة بكونها مفهوماً عاماً في اليمن. وبصرف النظر عن طبيعة اللحن وأسلوبه وموضوع الأغنية، تحول دويتو الفنانين، إبراهيم فضل ومحمد الخولاني إلى ترند على وسائل التواصل الاجتماعي، غلب عليه النقد.
تسببت حملات النقد القاسية بدفع عدد من الفنانين إلى التوقف عن الغناء. وحلّ بدلاً من التغيير، ردة نحو مزيد من سطوة التقاليد على الغناء اليمني.
لكن لا يزال هناك شباب يراهنون على تقديم أغنية حديثة. في حديث إلى “العربي الجديد”، قال الفنان إبراهيم فضل إن قوتهم في مواصلة الطريق هو الشغف، مؤكداً أن الاستسلام ضعف. وأضاف أنه وأبناء جيله يدركون أن أي بداية عُرضة للكثير من النقد.
وفقاً لفضل، فإن وجوده ضمن هذا الاتجاه الغنائي، يعود إلى إيمانه بما يمتلكه الغناء اليمني من موسيقى جميلة، إلى جانب سعيه لتأكيد أنها موسيقى قابلة للانفتاح واستيعاب عناصر جديدة من موسيقى العالم. ينتظر الفنان الشاب صدور أول البوم له في يناير/ كانون الثاني المقبل. وبعد تجربة اتسمت بتقديم أغانٍ منفردة (Single)، سيكون الألبوم بمثابة خطوة إلى الأمام. ومن المتوقع أن يكون أول البوم بوب يمني حديث، إذا استثنينا تجربة قديمة تعود إلى أواخر ثمانينيات القرن الماضي للفنان اليمني وليد خليل.
لكن تجربة الشباب الحالي تغوص أكثر في منح العنصر اللحني اليمني اتساعاً على خصائص لحنية عالمية. هذا ما يظهر بوضوح في دويتو “حبيبي حلاه يشذف”، فنرى استخدام أسلوب البوب واضحاً في مقطع “حبيبي عيونه السود”، إضافة إلى أنه يقترب من طابع الآر آند بي، لكن بصورة تدمجه بروح الغناء اليمني.
واللافت أن استخدام هذا العنصر اللحني العالمي، لا يخفي خاصية اللحن اليمني. اعتمدت الأغنية على عدة أساليب لحنية، بدءاً بتوظيف إيقاع الأفرو، مع استخدام الكيبورد في أداء الجملة الموسيقية، ونلحظ مزيجاً بين البوب العربي مع لمحة من روح الموسيقى اليمنية، لكنها تتضح في مصاحبة العود في بعض التراكات.
ومع بداية الغناء في الكوبليه، نجد اللحن يتخذ طابعاً يمنياً يقترب من أسلوب الإلقاء، مع تضمينه زخارف على الطريقة الصنعانية. بينما المذهب يمزج اللحن اليمني بأسلوب الآر آند بي مع تلوينات من البلوز. بخلاف استدعاء ملامح أفريقية في الغناء، وهو ما يتضح في أداء الكورال لثيمة لحنية يمنية تقليدية، يُضفى عليها أسلوب الأفرو.
الذهاب نحو بعض العناصر الأفريقية، خصوصاً الإيقاعات، يتقاطع مع مشترك متجذر في وجود مؤثرات أفريقية على الموسيقى اليمنية. تبدو هذه المغامرة بحثاً مستمرّاً عن أنماط جديدة لخلق موسيقى بوب قادرة على مواكبة الأنماط الحديثة، لتصبح الوعاء الذي يحمل الأغنية اليمنية إلى العالم.
يؤكد إبراهيم فضل أنه وغيره من الفنانين الشباب، يعملون على دمج الغناء اليمني بأنماط موسيقية عالمية، لكن اللحن في الأساس يمني. أما الألحان، فهم يستمدونها من التراث، ويستندون إلى الجيل الذي سبقهم.
وبصرف النظر عن طبيعة الموسيقى ومدى قدرة تلك الأعمال على تأكيد رسوخها في الوقت الحالي، على الأرجح أن تفضي تلك التجارب إلى أخرى مثلها، وإن اعتمدت على إنتاج شحيح وواجهت صعوبات بسبب اعتماد المغنين الشباب على أنفسهم في إنتاج أعمالهم، وكونهم في وضع لا يسمح لهم باسترداد تكاليفها، نظراً إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج.
يقول فضل إنه وكثيراً من الفنانين الشباب أخذوا على عاتقهم أن تكون لهم شخصية وصوت يمكن من خلاله التعبير عن أنفسهم، وليس فقط الاكتفاء بغناء التراث: “لدينا تراث عظيم في اليمن، لكن ينبغي أن يُعبّر كل جيل عن خصوصيته، وبالطريقة الأنسب له”، لافتاً إلى أنهم يستندون إلى التراث اليمني، كذلك فإن ألحانهم وإن دمجوها بأساليب موسيقية وإيقاعات عالمية، فإن الألحان تظل يمنية بحتة.
لا ينسب فضل إلى جيله الريادة في اليمن بظهور هذا النوع من الغناء. ويرى أن تطور التكنولوجيا في صناعة الموسيقى، وظهور تقنية الديجيتال، سهلت على جيله عملية الإنتاج، وقللت من تكاليفها مقارنة بالسابق. لكنه من ناحية أخرى، يرى أنه لو كانت هناك ريادة في هذا النوع من الموسيقى اليمنية الحديثة، يعود بدرجة كبيرة إلى الموزع الموسيقي مروان الحجاجي المعروف باسم ميرو.
حضور ميرو وسط هذا الجيل من الفنانين اليمنيين، يشبه إلى حد ما حضور حميد الشاعري لجيل الغناء المصري في الثمانينيات والتسعينيات، وربما فتحي سلامة، إذا اعتبرنا أن الأخير صاحب الأسبقية في ابتكار مقسوم إلكتروني، إلى جانب أسلوبه الثوري في التوزيع الموسيقي مطلع الثمانينيات.
من الواضح أن هناك فجوة زمنية بين اليمن والعالم العربي في ابتكار غناء بأسلوب البوب؛ إذ يعود ظهور هذا النوع من الموسيقى إلى مطلع الثمانينيات، وإن بدأت إرهاصاته في أواخر السبعينيات. لم يستقرّ حضور هذا اللون في المشهد الفني اليمني، مع أنه سبق أن ظهرت تجربة يمنية مبكرة لخلق هذا النوع من الموسيقى، في منتصف ثمانينيات القرن الماضي.
عُرف بهذا اللون الفنان اليمني وليد خليل، الذي بادر بتقديم ألحان من الفولكلور اليمني بطريقة حديثة، عبر تسريع التمبو اللحني، وكذلك بدمجها مع إيقاعات عالمية، إضافة إلى تقديمه بعض الألحان بقالب رومانسي حديث، أو على طريقة البوب المصري.
أقدم خليل على إنتاج ألبوم “طار طور” عام 1989 على طريقة البوب المصري خلال الثمانينيات، بايقاعات تتضمن التصفيقة. ولم يكتفِ بذلك، بل غلب على ألبومه الغناء المصري؛ فقدم من كلمات فؤاد حداد “طار طور”، إضافة إلى أغنية “رايح جاي” من ألحان أحمد منيب، وهذا الأخير أحد رموز تلك الحقبة الموسيقية بثوريتها. وأيضاً غنّى من ألحان منيب “غروب” للشاعر عبد الرحيم منصور.
تضمن الألبوم أغنيتين من الفولكلور اليمني، هما “صبوحة” و”ألا يا طير يالخضر”، وأعاد تقديمهما برؤية عصرية. ولا شك أن مغامرة خليل كانت باهظة الكلفة وقتها، وبمجرد فشل التجربة وعدم نجاحها في مصر والعالم العربي، تراجع الطموح.
لم يخفِ إبراهيم فضل وأبناء جيله وجود مشقة على صلة بهذا النوع من الموسيقى، والتجريب المستمر، فالاستمرار في المغامرة ليس رهاناً فردياً، بل أصبح جماعياً ويحفل بتجارب متعددة، وإن ظل إنتاجها شحيحاً.
يؤمن إبراهيم فضل والآخرون من أبناء جيله بالقدرة على تحسن فرصهم، ما دام الجميع مستمراً في الإنتاج، ويرتجي من الجمهور اليمني أن ينظر بنوع من التقدير لاجتهاداتهم في طريق ليس مفروشاً بالورد. يؤكد فضل مرة أخرى أن الفرص أمام صناعتهم كبيرة، لأن الناس بحاجة إلى الهروب من الموت إلى الحياة، التي تستمد بقاءها من الفنون.