ورد لفظ “حكم” ومشتقاته في القرآن الكريم في نحو مائة موضع ترجع في جلها إلى معنى واحد وهو القضاء والفصل بالحق والعدل لمنع العدوان والظلم. أهل الشورى والحكم بما أنزل الله
لم يفصل القرآن نظرية سياسية كي نأخذ بها، وإنما اكتفى بأصول عامة يمكن للعقل البشري أن يجعل منها منطلقاً في استكمال عمارة الأرض، ومن تلك الأصول جعل الأمر (أي الشأن السياسي الدنيوي) شورى بين الناس، بما يحقق العدل كمقصد أساس من مقاصد التشريع في علاقة الناس فيما بينهم، وبما يحفظ كرامتهم ويحقق الحرية لهم في اختيار ما يريدون دون إكراه، ولا شك أن الناس إن أعملوا عقولهم حول تلك الأصول فإنهم سيصلون للشكل الأنسب لإدارة حياتهم.
كنت قد تحدثت في المقال السابق عن اقتصار الطاعة في القرآن بعد طاعة الله ورسوله (طاعة الرسالة) على طاعة “أولي الأمر”، وقلت بأن المقصود بالأمر هو الأمر الدنيوي الذي يسوس حياة الناس، وأن أولوا الأمر هم أولوا الشأن السياسي أي السلطة السياسية بمصطلح اليوم، ولا يوجد سلطة غيرها تنظم أمر الناس، وكان لابد بعد ذلك من تفصيل أكثر حول كيفية وصولهم لأن يكونوا أولي أمر وكيف تتم عملية الشورى؟ ثم بيان ما الذي يعنيه لفظ “الحكم” في القرآن وهل يشير للسلطة السياسية أم لسلطة أخرى؟
لقد جعلت الآية إدارة الشأن السياسي (الأمر) عائدا للناس يتشاورن فيه ويختاروا الطريقة والشكل الأنسب لهم في كل زمان ومكان، تقول الآية { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ }الشورى (38)، وهذا ما عمله الجيل الأول حين اختاروا بوسائلهم المناسبة لعصرهم عبر البيعة أميرا يكون هو ولي أمرهم، ثم يختار قاضيا لفصل النزاعات، ويختار له مجموعة ممن يراهم أهل حكمة ليكونوا مستشاريه، ربما كانت تلك الصورة بدائية إذا ما قورنت بما وصلت له اليوم التجربة الإنسانية من آليات لتحقيق مقاصد العدل والحرية، لكنها إذا ما درست ضمن سياقها التاريخي فإنها تجربة جيدة، هذا مع العلم إن تجارب اليوم ليست متحققة كما هي في كتب منظّريها وفلاسفتها وإنما هناك التفاف كبير حولها توجهه سياسات الهيمنة.
إذن ما دام الأمر شورى بين الناس في كل زمان ومكان فمن حقهم أن يختاروا اليوم الوسيلة الأنسب لتحقيق العدالة والحرية والأمن للناس، ومن حقهم اليوم أن يختاروا الأشكال المناسبة للحكم سواء رئاسية أو برلمانية، وأن يختاروا الآلية المناسبة للانتخابات سواء عن طريق نظام الصوت الواحد أو عن طريق التمثيل النسبي، فكل تلك الآليات والنظم تجربة إنسانية إن كانت تحقق أعلى مستوى للعدل فهي الحكمة التي نحن أولى بها، ومن حق كل بلد أن يختار وأن يكيف ما يناسبه، وتلك التجربة لو لم يصلها الغرب لوصلها غيرهم، ولربما لو لم تتراجع الحضارة الإسلامية منذ قرون لكانت اتجهت إلى مثل تلك الآليات لتدير شأنها السياسي بها انطلاقا من التوجيه القرآني الذي جعل ذلك عائدا لهم.
لقد جاء الخطاب القرآني لنبينا عليه السلام في مقام ولي الأمر بأن لا ينفرد بالقرار وخاصة في القضايا السياسية الكبيرة فقالت الآية: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} آل عمران159، وهو خطاب وتوجيه لكل ولي أمر للناس من بعده بأن يشاور ولا يتخذ القرار منفردا.
أما أهل الشورى الذين يستشيرهم ولي الأمر فهم أهل الحكمة، القادرون على استنباط الرأي السديد من مختلف المجالات الدنيوية، وهذا ما أشارت إليه الآية {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ …} النساء83. فأهل الحكمة يستنبطون الرأي السديد الحكيم بالتفكير والنظر في الأمور بحسب الخبرة والتجربة التي يمتلكونها (وهم من أطلق عليهم أهل الحل والعقد) لأنهم من يحلون القضايا أي ينقضونها وهم من يعقدونها.
وحتى نحقق اليوم أكبر قدر من الرأي السديد والحكمة في شتى المجالات الدنيوية (السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والحربية.. الخ) كان لابد أن يكون أهل الشورى من مختلف مجالات وتنوعات وخبرات وفئات المجتمع، ففيهم العلماء من كل التخصصات وفيهم العسكريون (المتقاعدون) والتجار والقضاة والمهندسون والأطباء والحقوقيون والمحامون والمدرسون ورؤساء الأحزاب والجماعات والأقليات المذهبية والدينية والكتّاب والمفكرون وشيوخ القبائل، والنساء والشباب.. الخ.
هكذا ينبغي أن يكون مجلس الشورى (مجلس النواب) كي يحقق مقصد الشورى في أفضل وأعلى مستوياته، أما اقتصار ذلك المجلس على فئات قليلة من تلك المجالات فإنه لا يحقق الهدف من تكوينه، ولا يحقق الرأي السديد والحكمة إذا كان هناك مجالات لا يمثلها أحد، وربما حصل تقصير أو جور كبير بسبب ذلك النقص، وولي الأمر لا يستطيع مهما أوتى من ذكاء وعبقرية أن يفهم في كل المجالات، وأن يتنبه لكل القضايا، لذلك جاء المصطلح في القرآن بصيغة الجمع دائما “أولي الأمر”.
والذي أريد الوصول إليه من هذه التفصيلات أن الانتخابات الجارية في بلادنا لا تتنبه لذلك الهدف من الشورى، إذ الصورة الحالية للانتخابات لا تحقق ذلك التنوع والشمول، فمثلا في اليمن سيستحوذ شيخ القبيلة وشيخ الدين على غالبية المقاعد لما لهم من وجاهة اجتماعية، وهذا يفقد المجلس تنوعه المهم، ومن ثم يفقده الحكمة في التعامل مع القضايا التي لا يعرفها أولئك، وعلى هذا فإن اختيار مجلس الشورى (النواب) بنظام “التمثيل النسبي” هو الأقرب لتحقيق مقصد الشورى، وهي آلية ديمقراطية من ميزاتها الحفاظ على أصوات الأقلية، كما أنها تجعل الاختيار للأفضل حكمة لا للأقدر تملقاً للناس! بهذا الطريقة سيضم مجلس الشورى أكفأ الناس خبرة وأكثرهم حكمة، فيشرعوا للناس التشريعات المناسبة التي تنهض بحياتهم وتخفف من صراعات مجتمعهم.
يأتي في هذا السياق مصطلح “الحكم” والذي تستخدم بعض آياته كسور لمنع قبول أي تجربة إنسانية جديدة بزعم أنها تخالف الدين، فنسمع ترديد البعض للآية (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (الظَّالِمُونَ) (الْفَاسِقُونَ) [المائدة: 44،45،47] ويقصدون بالحكم السلطة السياسية في خلط له مع مصطلح الأمر، فما هو الحكم وما الذي أنزل الله فيه حتى نحكم به؟
ورد لفظ “حكم” ومشتقاته في القرآن الكريم في نحو مائة موضع ترجع في جلها إلى معنى واحد وهو القضاء والفصل بالحق والعدل لمنع العدوان والظلم.
إذن فمصطلح الحكم لا يشير للسلطة السياسية وإنما يشير إلى السلطة القضائية التي تتكامل مع السلطة السياسية لإدارة شأن الناس، ونجد أن الآية قد خاطبت النبي في مقام القاضي (السلطة القضائية) (إِنَّا أَنْـزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) وهذا المقام للنبي تبع لمقام ولي الأمر، فالنبي وحده من يجمع تلك المقامات، أما من بعده فينبغي أن يكون عمل أولي الأمر مفصول عن عمل القاضي.
وفي الآية إشارة إلى أن ذلك الحكم الذي سيصدره النبي عليه السلام إنما هو اجتهاد منه بعد تحري الحق والعدل وهو المفهوم من قوله (بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ)، وقد ذهب بعض الأصوليين إلى الاستشهاد بهذه الآية في كون النبي كان يجتهد، وما دام النبي كان يجتهد في القضاء فهذا يعني أن احتمال الخطأ وارد، وهو ما يمكن فهمه من سياق الآية التي تنهاه أن يكون مدافعا ومخاصما عن الخائنين، ويؤيد ذلك ما جاء في إحدى الروايات (البخاري ومسلم) التي تنسب إليه قوله: إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي وإنه يأتي الخصم ولعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صدق فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو فليتركها.
إذن فما الذي أنزله الله على نبيه ليحكم به؟ وهل بضع عقوبات لقضايا معينة هي كل ما يمكن أن يحدث في مجتمع ما بما فيه مجتمع النبوة؟! أوليست القضايا التي يتنازع فيها الناس كثيرة جدا وتزداد وتختلف من مكان لمكان ومن زمان لزمان؟! فهل ذكرها القرآن كلها؟ لا شك بأن القرآن لم يذكر كل النزاعات، إذن فكيف نفهم الحكم بما أنزل الله؟
الإجابة بسيطة إذا اعتمدنا تفسير القرآن بالقرآن، وفهمنا موضوعاته في اتساق بلا تناقض، فمن تأمل الآيات سيجد أن ما أنزله الله وأمر به في شأن الحكم هو العدل (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) فالعدل أصل عام يجب أن يتمثله كل قاض عند حكمه، لأنه سيجتهد في حكمه كما اجتهد النبي من قبله لذا عليه أن يتحرى العدل.. إذن وببساطة فإن من لم يحكم (يقضي) بما أنزل الله (العدل) فأولئك عند الله هم الظالمون، الفاسقون، الكافرون.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.