تهاوي جدار الخوف والسردية الحوثية
قد يبدو جهر المواطن بالشكوى من ظلم أي سلطة أمرا مألوفا لاسيما في البلدان التي يسود فيها الظلم والطغيان، لكن في حالة الحوثيين، فثمة ما يدعو للتوقف ولفت الانتباه لجهة أنهم ليسوا مثل أي سلطة مستبدة أو انقلابية، بل مليشيات تعتبر مجرد البوح بالألم والحزن جريمة تستحق العقاب، أقلّه السجن، بل يُمكن أن يُسجن المرء على ما لا يُعقل؛ مثل رفع علم بلده، وهناك الآف في السجون منذ سبتمبر الماضي فقط.
قبل أيام، تداول ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، مقطع فيديو لمواطن في العاصمة صنعاء ينتقد مليشيات الحوثي على خلفية منعه وآخرين من البناء في منزله أو حتى مجرد ترميمه.
يجلس الرجل على مرتفع صغير يطل على منزله في منطقة مذبح بصنعاء، ويتحدث بكل شجاعة عن الظلم والقهر الذي يشعر به، وعلى الأرجح أنه أراد إيصال رسالته بتلك الطريقة للانقلابيين الذي يحكمون صنعاء والرأي العام على حدٍ سواء.
يقول الرجل إن ما يُسمّى “اللجنة العسكرية” التابعة للحوثيين تمنع ملاك العقارات السكنية والأراضي في منطقة “مذبح والسنينة” شرقي العاصمة، منذ 8 أعوام، من القيام بأي بناء أو التصرف في ممتلكاتهم.
في عام ٢٠١٧، شكّل الحوثيون اللجنة، ومنذ ذلك الحين، أجبّرت الكثير من ملاك العقارات السكنية الممنوحة من الدولة سابقاً، على التعهد والالتزام بعدم البناء على الأراضي أو إجراء أي استحداثات، إلا بإذن منها.
وكحال مَن لم يعُد يخاف على شيء، واصل الرجل الغاضب حديثه موجهاً سيلا من النقد اللاذع والقوي للحوثيين واصفا حكمهم بالاستبدادي والظالم الذي لا مثيل له، ومضى يسوق الأمثلة على ذلك، لتبدو الأدلة التي قدّمها أقرب إلى محاكمة شعبية قد تكون محاكاة لما سيحصل في يوما ما.
“نحو 6 آلاف منزل، في مخطط جمعية الفرقة السكني، يعاني ملاكها حصاراً وحظراً مفروضاً من “اللجنة العسكرية”، يمنع أي عملية استحداث فيها “حتى وإن كانت لإنشاء نافذة أو باب رغم الإثباتات الرسمية المعتمدة لدى الجهات الحكومية”، يسرد المواطن الدليل الدامغ الذي يؤكد أيضا سلوك الحوثيين القائم على النهب والسطو وسرقة ممتلكات الآخرين.
ولأكثر من ٨٨ عملا احتجاجيا، نظم مُلاك هذه المباني قوتهم طارقين كافة الأبواب بحثا عن الإنصاف والعدالة دون جدوى، ولا غرابة في ذلك، طالما الظلم هو المسيطر.
تؤشر هذه الحالة وغيرها من المشاهد، إلى تغيير في الديناميكيات الاجتماعية التي تتزايد يوما بعد آخر، حيث يتلاشى شبح الخوف رغم قوة القمع والحُكم بالقوة ولا شيء سواها، وهي قوة هشة لا متماسكة، ويبتكر المواطنون لأنفسهم آليات للدفاع عن حقوقهم ومقاومة الظلم والبطش، وهذا ما يُربك الانقلابيين الذين يخسرون في صناعة الخوف كلما اعتقدوا أن القمع يجعلها رائجة ومقبولة.
هذه الحالة تنشأ عادة حينما يفتقر المجتمع، أي مجتمع للرافعات المدنية والنقابية والمؤسسات السياسية التي تنظمه وتقود غضبه، وهذا هو الواقع في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، مما دفع السكان لاستلهام الوسائل الممكنة للتعبير عن أصواتهم والدفاع عن حقوقهم.
فمن تنظيم الوقفات الاحتجاجية رغم ندرتها لسهولة قمعها إلى الإضراب عن العمل كما فعل المعلمون والمعلمات، وغيرها من الأشكال التي تدل على أن المجتمع يقاوم بطريقته وإن لم يراه الإعلام كما يجب.
وإلى جانب ذلك، يستثمر المواطنون في قوة وسائل التواصل الاجتماعي وهواتفهم الشخصية، يُوثقون الانتهاكات لتسليط الضوء على المسؤولين عنها ونشرها للرأي العام للضغط نحو الحد منها، ويمكن لأحدهم أن يوثق مظلمته الشخصية في مقطع فيديو ويرسله لآخر لنشره في مواقع التواصل أو يفعل هو شخصيا، وسرعان ما يُشعل الغضب والتفاعل ويحرّض الآخرين لاتخاذ مواقف معينة.
عندما تتحوّل المناسبات الوطنية مثل ثورة ٢٦ سبتمبر مثلا، إلى وسيلة للمقاومة ولو برفع العلم الوطني فوق السيارات وأسطح المنازل في الريف والحضر وتشغيل الأغاني الوطنية في المركبات، فهذا دليل آخر على أن المجتمع يفعل ما يستطيع لردع الظلم، وأنه يهزم الخوف وصانعه ولا يبالي بعواقب خياراته.
بطبيعة الحال، الاحتفال بالمناسبات الوطنية تعبير عفوي ينبع من الاحترام والتقدير للمناسبة، لكن حينما يتم منع ذلك ومصادرة هذا الحق، وتهديد من يفعل ذلك بالسجن، فلا شك أن الاحتفال يكون نوعا من التحدّي والتعبير عن الفرح بالمناسبة في نفس الوقت.
ونظراً لأن الحوثيين هم امتداد للحكم الكهنوتي الظلامي الذي قامت ضده ثورة ٢٦ سبتمبر، فليس غريبا انتهاجهم سياسات عدائية ضد الثورة ونظامها، وتبعا لذلك من المنطقي أن يكون احتفال الناس بالثورة ورموزها وتمسكهم بالجمهورية، من وسائل المقاومة لاستعادة حريتهم ودولتهم التي تكفل حقوق الجميع.
إن كسر جدار الخوف في الواقع، يحاصر الانقلابيين في دائرة القلق من السقوط، ويعزز عزلتهم الاجتماعية التي يحاولون تجاوزها تارة بالشعارات وتارة أخرى بالوسائل المكشوفة التي لا تخدع عاقلا.
وبالتزامن مع ذلك، ثمة سقوط متدرج لسردية التخوين ودمغ الآخرين بالتهم السخيفة من قبيل “التخابر مع العدوان” و “التخريب” وغيرها من مصفوفة الأكاذيب التي لا تتوقف، ويكفي التدليل على هذا السقوط، سخرية الرأي العام من رواية أبواق الدعاية الحوثية التي تحاول تجميل القُبح وتزيين الانتهاكات وتصوير الضحايا كجناه والظالمين إلى ضحايا.
كل تعليق يكتبه مواطن باسمه الحقيقي ردا على منشور أحد قيادات الانقلاب هو بمثابة إطلاق رصاصة من بندق الشجاعة، كل منشور أو صورة أو فيديو يوثق انتهاكا أو يُعبّر عن موقفا مما يجري هو لبنة في مشروع التغيير الذي سيفضي مع مرور الوقت إلى الوضع الطبيعي.
هذه النماذج تدعو الإعلام والمثقفين والمؤثرين في مواقع التواصل إلى تسليط الضوء عليها؛ فهي تدل على حيوية وقوة المجتمع، وضعف وهشاشة الانقلابيين مهما بالغوا في استعراض القوة.