تصدّر اللوبي الإمامي قائمة المخاطر التي تهدد الجمهورية الناشئة ونظامها الديمقراطي في خطواته الأولى. ولمزيد من تسليط الضوء على جذور الثورة المضادة للجمهورية من الجيد أن نتطرق إلى الخصوصية الجمهورية في الذات اليمنية دون سواها من الجمهوريات العربية.
باعتبارها الجمهورية الناشئة في ظل ظروف اجتماعية وثقافية واقتصادية وتعليمية متأخرة وظرف سياسي متقدم متمثل بالجمهورية، ومن ثم الديمقراطية، وهذا ما جعل التحول السياسي يمر بثقالات عديدة وانحرافات في مسار المشروع الجمهوري.
كانت خيوط الثورة المضادة هي المغذي الرئيس لتلك والثقالات والانحرافات عن الدرب الجمهوري بأشكال متعددة، كان أخطرها من وجهة نظري اللوبي الإمامي الذي يتصدر أعلى قائمة المخاطر المهددة للجمهورية كمنجز سياسي لم يأتِ على طبق مكرونة تم طباخته في لحظات، بل جاء على طبق من كفاح نصف قرن..
يحل بعده في قائمة المخاطر، اللوبي الجمهوري، الشعار الإمامي المضمون في هرم السلطة العليا هو الذي ازدهرت في عهده الثورة المضادة كما أشرت في المقابل السابق.
وأنا هنا سأحاول التناول الموضوعي قدر الإمكان لجذور الثورة المضادة التي أجهضت كل فرص تصحيح المسار الجمهوري، وخصوصاً في مراحل الحركات التصحيحية التي تميزت بها الحركة الوطنية اليمنية دون سواها أو في أهم محطة تصحيحية في الوحدة السلمية عام 90 التي جاءت بخلاصة الثورتين وثمرة لنضال وكفاح الحركة الثورية في الشمال وفي الجنوب.
فعلى صعيد المخرجات السياسية للوحدة، كان الدستور الديمقراطي أضخم انجاز سياسي في الجزيرة وربما في المحيط العربي، وشهدت المرحلة الانتقالية التي تلت الوحدة أبرز مظاهر الثورة المضادة من داخل السلطة وخارجها، وفي مقدمتها الخطاب المضاد للدستور الجمهوري بشكل الديمقراطي الموحد من خلال “أسطوانة مشروخة” وهي “القرآن دستورنا”.
عمل النظام السياسي في الشطر الشمالي على تغذية ذلك الخطاب وإن تظاهر بالوقوف على الضد منه، ذلك الخطاب المضاد كان الممهد الفكري للوحدة المضادة التي جاءت كمخرجات لـ7 يوليو بدلاً من الوحدة الحقيقية مايو و90، والوحدة المضادة لم تكن خطر على الهوية والوحدة الوطنية فقط بل كان وحدة مضادة لثورتين ووحدة سبتمبر واكتوبر ومايو، وهذا شكل أخطر ارتداد على مستوى الهوية والوحدة والوطنية والإرث الجمهوري لسبتمبر والإرث التحرري لاكتوبر..
وعمل على توسيع الشرخ السياسي وتحويله من افق سياسي متمثل باقصاء الشريك السياسي للوحدة إلى شرخ ما قبل وطني قائم على الاستبعاد السياسي رغم أن طبيعة الصراع كان بين توجهات سياسية من الجنوب والشمال وايضاً الطرف الذي تعرض للاستبعاد توجه سياسي من الجنوب والشمال، وربما عملية التنكيل التي تمت بحق الحاضنة الشعبية لذات التوجه السياسي في الشمال على المستوى الاجتماعي كانت مضاعفة وطويلة امتدت من بعد مرحلة الحمدي إلى توقيع الوحدة ليتم استئنافها بحرب الصيف الذي بلغت فيه الوحدة المضادة لثورتين ووحدة ذروتها.
بعد الانفرد بالسلطة والاشتغال على ما كان يسمى بـ”الأغلبية المريحة”، وتحويل الديمقراطية إلى صندوق مخزوق تحولت السلطة بتركيبتها الفئوية والمغلقة إلى ثورة مضادة ضربت الروح الجمهورية والديمقراطية، وعملت على تخيصب الثورة المضادة بل ورعايتها.
ولعل اللفتة المهمة لتدارك الأمر هو بلورة مشروع سياسي معارض للسلطة المضادة للمشروع الجمهوري خرجت تلك المعارضة السياسية إلى النور في 2011 وهنا نستطيع القول إنها بداية مهمة بكل سلبياتها وإيجابياتها أعادت لوجه الجمهورية والتغيير بعض حيوته، وكسرت الركود وأعادت مفردة التغيير على أساس الجمهورية والديمقراطية إلى الحضور بعد الغياب الطويل. هذا لا يعني أن خيوط الثورة المضادة كانت داخل أحشاء السلطة المضادة للجمهورية، بل امتدت أيضاً في أحشاء المعارضة السياسية، وإن كانت ترفع لافتة الجمهورية والديمقراطية، لكن اللحظات كانت تكشف بين فترة واخرى أن فكرة الحق الإلهى واغتصاب الحكم لا تزال هي الحاضر البارز في الذهنية السياسية، وكما أن فكرة الاحتكار المغلق للحكم كانت تتجلى بين فترة وفترة.
وبلغ ذورته مع بروز الثورة المضادة للجمهورية هذه المرة بشكل مسلح يستدعي المظلومية ويستغل مواجة الغبن الشعبي من السلطة الجمهورية التي ذهبت نحو منحى عائلي وعملت على تخصيب الحوثية في حروبها التي أعلنتها في العلن لمكافحة التمرد، لكنها كانت تعمل على تمدده واستخدمت في ذلك مآرب أخرى فيها استزاف لما تبقى من ميراث الجيش الجمهوري الذي لم تجد فيها الولاء الكامل للتوريث والحكم العائلي الذي زرع التطبيع النفسي لحكم الاسرة وخصوصاً في المزاج الشعبي غير الواعي لمخاطر ذلك التطبيع الذي يفقد الجمهورية شعبيتها ويمهد لمصادرة جمهورية الشعب باعبتارها سلطة الجماهير إلى جمهورية عائلية قدمت للثورة المضادة مبررات الانتقاص من قدسية المشروع الجمهورية الذي أعطى القداسة الكاملة لسلطة الشعب وحكم الشعب نفسه بنفسه.