كان الدكتور “فيفر” وزوجته وطفلاه قد تسلقوا الجبال الحصينة ذاتها كبعثة طبية أوفدتها فرنسا إلى اليمن في مطلع العام 1947. تفشى وباء “الكوليرا” في دولة مجاورة، فسارع الدكتور”فيفر” كبير أطباء المملكة المتوكلية إلى دق جرس الإنذار، ووضع خطة تطعيم لمجابهة هذا الوباء، لكن سكان صنعاء رفضوا خطته تلك بحجة أن أي مكروب لن يتمكن من تسلق جبالهم الحصينة!
كان الدكتور “فيفر” وزوجته وطفلاه قد تسلقوا الجبال الحصينة ذاتها كبعثة طبية أوفدتها فرنسا إلى اليمن في مطلع العام 1947، لكن الرجل الذي عمل طبيبا للعائلة المتوكلية مات في اكتوبر من العام نفسه متأثرا بغرابة الحجة التي ساقها الناس لإفشال خطته لمجابهة الكوليرا في ظل خدمات طبية منعدمة، كانت هي الأخرى قد فاقمت لديه إحباطات الفشل..
كان الإمام يحى حميد الدين قد طلب من باريس إيفاد هذه البعثة إلى مملكته المتوكلية المغلقة على العصور الوسطى، خصوصا وأن جراحه الخاص الذي أوفدته باريس كان قد نجح في مهمته، كما تمكنت الدكتورة الفرنسية “سيرين” من علاج إحدى أميرات الأسرة المالكة، فيما كان الأطباء الإيطاليين قد غادروا اليمن في فترة الحرب العالمية الثانية.
والأرجح أن الأمام يحيى لم يكن مكترثا بحجم الإحباطات التي أماتت طبيبة “فيفر”، لكنه ومن خلفية دينية كان عليه أن يكرم دفنه.
وتؤكد زوجة الطبيب المتوفي “مدام فيفر” أن الإمام نقل إليها تعازيه الحارة بموت زوجها واضعا أمامها خيارين لدفنه: الأول دفنه في مقبرة اليهود، والخيار الثاني الذي وافقت عليه فهو دفنه في فناء المنزل الطيني الجميل الذي أسكنهم إياه في حي بئر العزب داخل أسوار صنعاء القديمة.. على أنه ما من خيار ثالث عرض فيه الإمام دفن طبيب مملكته الموبوءة في مقبرة للمسلمين.. لكنه وكنوع من التكريم أمر بنصب قبة على ضريحه في فناء ذلك المنزل.
وتعتقد “مدام فيفر” أن زوجها الذي رفض الناس دواءه في شهر رمضان علاوة على تلك الخطة هو الأجنبي الأول الذي مات في اليمن وأمر رأس الدولة بنصب قبة على ضريحه!!
كان الطبيب “فيفر” متفانيا في عمله ومتواضعا للغاية كما يبدو، إذ أنه وعلى الرغم من أهميته الوظيفية والإنسانية القصوى فتح جدار روحه للموت عوضا عن الغرور الذي هيمن على كبير مهندسي المملكة.
فالمهندس الذي عين الإمام يحى مهندساً مصرياً آخر بدلاً عنه، لم يكترث بترقية نفسه إلى كبير مهندسي كبار المهندسين بالمملكة بل ظل يتباهى بهذه المكانة أمام أصدقائه ومنهم “مدام فيفر” التي أطاحت به في مذكراتها البديعة التي قدمتها كشاهد هو الأبرز على تراجيديا نهب صنعاء أبان ثورة “48” الدستورية المحكمة والفاشلة في آن معاً.
وبشكل كامل يستند هذا المقال بجزئيه على المشاهد والأحداث التي دونتها “مدام فيفر” وهي الورقة التي إعتبرها مركز الدراسات والبحوث اليمني وثيقة هامة ضمن الوثائق التي جمعها حول ثورة “48” وأصدر طبعتها الأولى على شكل مجلد في مطلع سبيعنيات القرن الماضي.
وما أمتع أن تقرأ التاريخ كما يرويه لك شاهد محايد ومتهكم في الوقت عينه.
صور على طريق صنعاء
مشقة الرحلة وقيود الحركة التي تجابه سفرك اليوم من تعز إلى عدن والعكس، لم تكن بعثة الدكتور فيفر قد جابهتها في رحلتها من عدن إلى تعز، بل قالت زوجته إنها اتسمت بالهدوء ولم يواجهوا خلالها أية مصاعب.
وتابعت قائلة: “بعد مضي عشرة أيام من وصولنا تعز استقبلنا ولي العهد أحمد حميد الدين في قصره وكان سميناً جداً ذا لحية غزيرة الشعر، عيناه مكتحلتان ويلبس حذاءً ضخماً بدون رباط وعمامة ضخمة كان قد وضعها على رأسه الحليق بإحكام”.
واللافت في مذكرات مدام فيفر أن ولي العهد أحمد كان يجيد التحدث بالإنجليزية، الأمر الذي أشارت إليه حين قالت: “بينما دخل زوجي معه في حديث بلغة إنجليزية ركيكة دخلت أنا وابنتي إلى جناح الحريم.. وكم كان ممتعا رؤية العجائز وهن يقمن بدتخين النرجيلة الجملية (المداعه) ويبصقن على أواني “متافل” ذات أشكال بديعة مصنوعة من النحاس.. وأما الفتيات فكن يمضغن الكعك بطريقة خلت من الإتيكيت”..
أزعجتها الطريقة التي تأكل فيها الفتيات فوصفتهن قائلة: “باختصار، لقد كان تصرفهن العام يشبه إلى حد كبير تصرف بنات الملاجىء الدينية”.
على أن التوصيف الأكثر أهمية يكمن في اشارتها بجملة واحدة إلى وضع الحريات العامة في البلد، وفي ذلك قولها: “قبل وصولنا بفترة وجيزة، أصدر الإمام أمراً يمنع استعال (صندوق الطرب) الذي وصفه بكونه آلة ملحدة لما تسببه من تسميم لأفكار المسلمين.. ولذا فقد حذرنا من استعماله”.
كانت خمسة أيام هي المدة التي استغرقها سفر البعثة من تعز إلى الحديدة، ويا لها من شاقة كما تروي مدام فيفر، والأكثر مشقة كان سفرهم من الحديدة إلى صنعاء، وفي الرحلتين المتداخلتين كانت المشاهد تتوالى على أنظار السيدة الفرنسية اللماحة والمشدوهة في آن، فسارعت إلى رسمها بتمكن، حيث تقول:
ومما لفت نظري في الحديدة رصيف الميناء الذي يبلغ طوله 20 ياردة، وكان أصغر قارب يضطر إلى تفريغ حمولته على عائمات مسطحة ليقوم رجال ونساء بحمل البضائع إلى البر وقد ترك البؤس على وجوههم علامة مميزة..
أما الشوارع فقد كان يقوم بتنظيفها مجموعات من المساجين المكبلين بالسلاسل وتساعدهم كلاب القمامة الجائعة والتي كان جوعها يدفعها إلى أكل أطفالها الصغار!!
وفي المدينة الساحلية التي عادت اليوم بلا كهرباء وتوسعت فيها مظاهر المجاعة على نحو تناقلته وسائل الإعلام ومواقع التواصل كان شيئا منها قد بدا جميلا بالنسبة للسيدة التي قالت يومئذ: “شد نظري أسراب الغربان وهي تقدم عرضاً في غاية الرشاقة أثناء قيامها بالتقاط أي فتات تلقيه طيور البحر والنورس”..
وفي حمام على كانت تشاهد الناس وهم يغتسلون في بركة المياه التي تغتسل فيها الحيوانات وقد انتشرت حولها الأكواخ التي أعدت للزوار، ولم تتمكن البعثة من الحصول على واحد منها، فكان على مرافقهم أن يقنع أحد الفلاحين باخراج حيواناته من الإسطبل ليفسح للبعثة الطبية الفرنسية مكان فيه.
وأما الطريق الذي سلكوه فقد كان عرضه بمقدار عرض السيارة وكان من الصعب على “مدام فيفر”، ان تطل براسها من النافذة كي لا تصاب بالدوار، وفي أكثر من مرة كانت ترتفع درجة حرارة السيارة فيضطرهم هذا إلى النزول ومتابعة السير على الأقدام فيحيط بهم رجال القبائل الجبلية الذين يمتازون بطول القامة وشعرهم الطويل.
“أما أجسادهم فقد غطوها بأثواب مصنوعة من جلد الأغنام”، وكان هذا في المسافة ما بين حمام علي ومعبر، وقبل وصولها صنعاء على حد وصفها.
معاناة وأصدقاء بئر العزب
وأخيراً تمكنت البعثة من الوصول إلى صنعاء ذي الكثافة السكانية البالغة آنذاك والتي تقدرها مدام ففير بـ40 ألف نسمة..
والمنزل الطيني الذي منحه الإمام يحي سكنا لعائلة الدكتور “فيفر ” في بير العزب، كان مؤثثاً على الطراز الأوروبي وتتوسط حديقته بركة الماء التي تمتعت بها العائلة في أوقات القيلولة.
وبالنسبة لمدام فيفر، فقد أعجبها كثيراً الستائر اليدوية الصنعانية الضخمة والتي شكلت ديكوراً جميلاً من الداخل، إلى جانب أرضية المنزل التي سطحت بمفارش صوف يمنية.
ولعدم وجود الكهرباء في صنعاء، اللهم إلا مولداً صغيراً في القصر الملكي، فقد ظل مطبخ العائلة مزوداً بتنورين يوقدان بالخشب”.
لم يكن ثمة “ليد” في صنعاء يومها كما يبدو، فالطباخون الذين عينوا لمساعدة “مدام فيفر” شكلوا عبئاً ثقيلاً عليها نظراً لعدم خبرتهم بطبخ وتقديم الطعام على الطريقة الأوروبية..
وكانت أصوات البوق وصرخات الحرس تتناهى إلى مسامع العائلة الفرنسية التي لم تنعم بالهدوء، كما كان المنزل قريباً من إحدى الحمامات التركية التي تستعمل مخلفات الحيوانات وقوداً لها وكان هذا يضطر العائلة إلى إغلاق النوافذ د..
ولعدم وجود مواصلات، فقد كان على الإ مام يحيى أن يمنح عائلة طبيب المملكة حصانين وحمار، وعندما تذهب العائلة إلى السوق لشراء حاجياتها أو إلى قاع اليهود لشراء الخبز المصنوع على الطريقة الأوروبية والنبيذ والمشروبات الروحية، كان يرافقها عدد من العسكر الذين كرسوا جهودهم في فض تجمهرات الناس حول الكائنات التي وكأنها قدمت من كوكب آخر.
كان هذا على الصعيد الخاص كما تحدثت “مدام فيفر”، ولكن هذا لم يقف عائقاً أمام قدرة العائلة على نسج علاقات ودية مع الناس الذين كان من أبرزهم سيف الإسلام القاسم حميد الدين الذي يشغل منصب وزير الصحة والتلغراف وأما صديق العائلة الأكثر قرب فهو كبير مهندسي المملكة..
ولكلا الصديقين قصة مضحكة ترويها مدام فيفر:
بالنسبة لصديق العائلة سيف الاسلام القاسم قالت: أذكر موقفاً حدث له أضحكني وأحزنني في الوقت نفسه، وذلك عندما وقع شجار بينه وبين أبيه (الإمام يحيى) فمنعه أبوه بعد ذلك من ركوب الحصان، وكم كان مخزياً ولا إنسانياً منظر ذلك الأمير الضخم وهو يركب على ظهر حمار صغير..
تقول مدام فيفر: وأما أقرب صديق لنا فقد كان كبير مهندسي المملكة المتوكلية الذي كان يحتفظ داخل بستانه بطائرة ذات مقعدين لهدف التمكن من الهرب في حالة قيام ثورة، ومن الغريب أنه لم يحاول تجربة الطائرة حتى ولو مرة واحدة، إلا أنه احتفظ لنفسه بكتاب يشرح كيفية استخدامها وتشغيلها..
وتتابع سرد قصة هذا الصديق المغرور قائلة: وبعد وصولنا بفترة قام الإمام بتعيين أحد الخبراء المصريين بدرجة كبير مهندسي المملكة فلم يكترث صاحبنا بتاتاً بالأمر، بل قام بترقية نفسه إلى كبير مهندسي كبار المهندسين بالمملكة”.
نقطة الإنهيار
بعد وفاة زوجها كبير أطباء المملكة المتوكلية، واجهت مدام “فيفر” بعض الصعوبات ولم تتمكن وطفلاها من مغادرة اليمن، فشكت حالها إلى الإمام يحيى شخصيا. وكسيدة نبيلة فقد ظلت تتذكر أن الأمام رد عليها خلال وقت قصير جداً، ووعد بتقديم العون لها وطلب منها اعتبار نفسها تحت رعايته وحمايته الشخصية.
وفي الساعة الثانية من بعد الظهر، الموافق 17 فبراير عام 1948، حدث انقلاباً كاملاً للأوضاع، فهرع كبير مهندسي كبار المهندسين في المملكة إلى منزلها ليزف إليها النبأ..
وتصف مدام فيفر المشهد قائلة: “دخل إلى منزلنا كبير مهندسي ….. بحالة مرتبكة ووجه شاحب وهو يتلعثم.. وبعد أن هدأنا من روعه، بدأ يحكي بصوت متهدج أن الإمام يحيى ورئيس وزرائه القاضي العمري قد اغتيلا.. ثم غادرنا بسرعة الريح دون أن يكمل حديثه طالباً مني متابعة الأخبار أول بأول حول الكارثة”.
لم يكن في صنعاء ثمة وسيلة من وسائل الإعلام الرسمية، الأمر الذي قالت مدام فيفر بأنه: “قد ساعد على انتشار الإشاعات الخيالية والكاذبة.. إلا أن ثمة أخبار أكدت أن الإمام يحيى حميد الدين قد أغتيل.. كما اغتيل إلى جانبه رئيس وزرائه وحفيده والسائق واثنان من جنوده كانا برفقته وهو يقوم بجولته المعتادة في إحدى ضواحي صنعاء، كما أكدت الأخبار أن اثنين من أبناء الإمام وهما سيف الإسلام الحسين وسيف الإسلام المحسن قد قتلا أمام القصر الملكي..
وأثبتت الأخبار فيما بعد أن “السيد عبد الله الوزير، وهو أحد أبناء العائلات التي سبق لها أن حكمت اليمن، قد أصبح على رأس السلطة، وفي اليوم الثاني أمر بدفن جثة الإمام يحيى بطريقة سرية”.
وتتذكر مدام “فيفر” بأنه تم تنصيب عبد الله الوزير (ملكا دستوريا لليمن) بصحن الجامع الكبير بصنعاء في اجتماع كبير ضم علماء الدين وجمهور غفير من وجهاء اليمن وكبار القبائل.
وأطلقت المدافع مئات الطلقات تحية لإمام الجديد الذي انتقل وأعوانه من المدنيين والجنود إلى قصر غمدان، وأغلقوه على أنفسهم. وقصر غمدان كما تتذكره مدام فيفر كان عبارة عن قلعة كبيرة ترتفع حوالي 500 متر عن مستوى صنعاء القديمة وتتحكم بها؛ وقد قام الحرس بقفل أبواب سور صنعاء عدا باب اليمن الذي ظل مفتوحاً فيما توقفت جميع الإتصالات التلغرافية والبريدية، وقفزت أسعار السوق بشكل جنوني.
ولاحقاً، كشفت الأخبار أن الرأس المدبر للإنقلاب هو الجنرال العراقي السابق جمال جميل، وأن الخطة قد تم تنفيذها بتأييد وموافقة الأمير سيف الإسلام إبراهيم بن يحيى حميد الدين، الذي كان آنذاك لاجئاً في عدن..
على أن خطة الجنرال جمال جميل المحكمة تركت ثغرة نفذ منها ولي عهد المملكة المتوكلية الإمام أحمد حميد الدين، وهو ذلك الرجل السمين الذي قابلته مدام فيفر في تعز، وقد طوى عمامته على رأسه الحليق بإحكام!!
وهنا حلت اللعنة على ثورة “48” التي أفلت منها هذا الضخم ليعود وبالاً عليها وعلى سكان صنعاء الذين ما أن أفلتوا من الكوليرا حتى فتكت بهم جحافل القبائل التي كان هذا الإمام الطاغي قد أباح لها نهب صنعاء على النحو الذي سترويه لك مدام”فيفر” في الجزء الثاني والمثير للغاية من هذا العرض المقالي لمذكراتها..
تاريخك ياليد..