قد نشهد ردود فعل سعودية غير متوقعة في الشرق الأوسط تعمل على تغيير المعادلة السياسية والعسكرية. بات واضحاً أن القانون المثير للجدل (جاستا)، والذي اعتمده الكونجرس الأمريكي مصمم لتوريط السعودية حصرياً بمحاكمات طويلة ومملة ستنتهي بتسويات مالية.. ولن تنهار السعودية على إثرها ولن تشرق الشمس من مغربها بعد ذلك كما يتصور البعض.
تتوقع السعودية هذه اللحظة منذ سنوات، فقد دفعت في العام 2015 وحده ما يقارب 9.4 مليون دولار لجماعات ضغط عملت على منع إصداره في ذلك الوقت وتدفع حالياً ما يقارب 250 ألف دولار شهرياً تحت عناوين مختلفة (شركات محاماة وجماعات ضغط)، وفق عقود وقعتها السعودية مع تلك الأطراف لتعمل على صيانة الموقف القانوني السعودي.
تدور المسألة، ومنذ انتخاب اوباما في العام 2008، حول تقرير مكون من 28 صفحة فيه خلاصة التحقيقات الخاصة بـ11 سبتمبر وفيه أقوال شهود وأدلة جنائية وسياسية تثبت تورط مؤسسات وشخصيات سعودية نافذة، ربما كان يعلم النظام السعودي بصلتها بأعمال إرهابية، وقد وعد أوباما ناخبيه آنذاك بالإفراج عن هذا التقرير الذي ظل حبيس الأدراج كل هذه السنوات.
ثم وبعد انتخابه، عارض اوباما الافراج عن الوثائق بناءً على نصائح من المؤسسة الاستخباراتية التي رأت أن اظهار السعودية كفاعل أساسي في أحداث سبتمبر سيضع الإدارة الأمريكية في حرج تاريخي أمام الأمة الأمريكية.
جاءت اللحظة التي بدى فيها الافراج عن هذه الوثائق عملاً سياسياً كيدياً لا يأبه بالعدالة مثلما يؤشر لمزاج أمريكي غاضب من سياسات المؤسسة الحاكمة السعودية التي تصادمت مؤخراً وبشكل كبير مع سياسات الولايات المتحدة، ابتداء من أسعار النفط التي حرمت الولايات المتحدة من انتاج النفط الصخري عالي التكلفة، ثم بتفرد السعودية بمواضيع إقليمية كاليمن وسورية احتجاجاً من قبل السعوديين على التقارب الأمريكي الإيراني وشعورهم بتنامي الخطر الإيراني المدعوم بالصمت الأمريكي الذي لا تحتاج إيران عملياً، سواه.
يرى مراقبون أيضاً بأن الڤيتو الذي استخدمه أوباما ضد القانون لم يكن سوى موقفاً فائضاً، وهو يعلم تماماً نية الكونجرس بتمرير هذا القانون. وتجدر الإشارة هنا إلى طبيعة العلاقة بين كل الرؤساء الأمريكيين والكونجرس، والتي عرّفها الرئيس الأسبق ليندون جونسون بقوله: أنا بدون الكونجرس رجل بسيط من تكساس طوله 65 بوصة. ذلك يعني لنا أن أوباما تصرف بشكل تقليدي ككثير من الرؤساء الأمريكيين الذين يتركون مسائل من هذا النوع للكونجرس دون التورط بحساسيات سياسية مع أطراف دولية وعربية، فأراد أن يعفي إدارته من مضاعفات اعتماد هذا القانون، وهو يعلم أن مسألة تمريره لم تكن سوى مسألة وقت.
سيشتغل “جاستا” منذ تاريخ اعتماده حصراً ضد السعودية باستخدام دعاوى أهالي 3000 قتيل في أحداث سبتمبر، وأكثر من 400 ألف متضرر غير مباشر من سكان نيويورك، ونستبعد إمكانية ليّ هذا القانون واستخدامه ضد الأمريكيين أنفسهم لاعتبارات كثيرة أهمها غياب المؤسسات القضائية العربية المستقلة عن الأنظمة الحاكمة، بعكس القضاء الأمريكي الذي يعمل بمعزل عن الحكومة؛ وهو ما يتيح الضغط على ضحايا الحروب الأمريكية في الشرق الأوسط في الوقت الذي تنعدم فيه هذه الإمكانية في الولايات المتحدة.
الخلاصة أن السعودية ستخوض ماراثون طويل من المحاكمات ما لم تحدث معجزة سياسية تؤدي إلى إبطال الدعاوى وعودة الأمور إلى ما كانت عليه.
ستكون الشهور القادمة حبلى بالمفاجآت، وقد نشهد ردود فعل سعودية غير متوقعة في الشرق الأوسط تعمل على تغيير المعادلة السياسية والعسكرية..
وذلك سيؤثر بهذا الملف بكل تأكيد.