وعكة وطن وأمة
علينا الاعتراف أن الحضارة الغربية في الخمسين سنة الماضية حققت مستوى مذهلا من التطور العلمي أثر على كل مناحي الحياة والبناء، ولم يكن هذا التطور ليحدث دون استقرار كامل (سياسي واقتصادي واجتماعي)، وليِد الحياة السياسية المنضبطة على أسس علمية، يظهر تلقائيا بالترابط الوثيق والتناغم بين طبقات المجتمع باختلاف توجهاتها ومعتقداتها السياسية والدينية والطوائف.
وعلينا ان نعترف أيضا أنها استفادت من تجربتنا الحضارية، وقيم ومبادئ اسلامنا الحنيف، الذي يحث على المساواة والعدالة والحريات وحقوق الانسان، بينما تهنا نحن عن كل تلك القيم، وبنينا انظمتنا السياسية بعد التحرر من الاستعمار على أسس الترسانات الأمنية و أدوات الامن السياسي التي أحدثت استقرار وهمي، لم يستطيع ان يبني مجتمعات حية ومتحررة، صحيح ان الوجه الحضاري كان بائن، لكن التخلف كان مخفي تحت هذا الوجه، وبمجرد ما ان سقطت تلك الأنظمة، برز الوجه الحقيقي، برزت الكراهية والعصبيات الجاهلية والعرقية، وبرز الصراع المناطقي والطائفي، وسقطنا في وحل من الصراعات والحروب، وتحول معظمنا لأدوات، نتأمر على بعضنا، ونقتل بعضنا بدم بارد، ونفرز بعضنا لشياطين وملائكة بمزاج عار من الصحة والحكمة والفطنة، بغباء سياسي غير مسبوق.
معظم بلداننا العربية وانظمتها السياسية التي كانت تمثل قلاع العروبة لم تكن لتسقط لولا الخلافات السياسية، والفتنة التي افسدت العلاقات والروابط المقدسة، من العلاقات الخاصة للروابط الدين والعقيدة السياسية، لم نهتدي لإصلاح ذات البين، بل كان فساد ذات البين هو الذي دمر كل جسور الثقة وصدع مجتمعاتنا.
اليمن البلد الذي كان يمثل أفضل نظام سياسي يحاول دعم قوام الانسانية، ليتجاوز التمايز الطبقي، و يطور هامشه الديمقراطي، فيه تعدد سياسي وثقافي وفكري، شكل مخاض وحراك سياسي يعيد ترتيب السلطات بما يلبي تطلعات الناس، لم يسلم من تلك الفتنة، والتدخلات الخارجية لقوى ترى ان هذا الانفتاح الديمقراطي والتعدد السياسي يشكل خطرا على وجودها.
لم يقبل ان الشعب ينتفض على سلطاته اذا ما وجدها لا تلبي تطلعاته، واشتغل على شيطنة اطراف سياسية ودعم اطراف اخرى، ليعيد البلد لسلطة الهيمنة الطائفية والمناطقية، لم يستطيع الحوثي ان يسيطر على الارض لولا دعم تلك القوى، ولم تنحرف القضية الجنوبية لتأخذ منحى مناطقي وعنصري لولا دعم تلك القوى، ولم تسقط الدولة وتدمر مقوماتها، وكل انجازات الثورة والجمهورية ما لم تكن لتلك القوى ايادي خفية اشتغلت على هذا التدمير، وعززت الصراع السلبي، اثارت النزعات القديمة، سنة وشيعة، شمال وجنوب، صراع الايدلوجيا القديم، وللأسف وجدت بيئة مثخنة بالجراح، واشتغلت عليها، معززة روح الثأر والانتقام، كل هذا لأجل ان يبقى المجتمع متناحر ومنقسم على بعضه البعض، وبلد منزوع السيادة وشعب منزوع الارادة، تتربع قيادته قوى اسيرة افكار وتوجهات التنازع على السلطة والاستئثار بالثروة، وبدأ العمل على افساد ما يمكن افساده لنهب تلك الثروة.
هذا حالنا اليوم، حوثي في الشمال، وانتقالي في الجنوب، وصراع على مشاريع بعناوين وطنية وفي باطنها صراع طائفي مناطقي على السلطة والثروة، انتهاكات وسجون سرية وحقوق مهدورة واقصاء وتهميش وفقر وتجويع، كل هذا تديره قوى اقليمية ودولية، وادواتها المثخنة بالفساد والجشع والشبع، بينما الشعب جائع محروم من كل شيء، من لقمة هنيئة وحياة كريمة وعزة وشرف، في وطن لا وجه حضاري له ولا وجه انساني، كل شيء فيه قبيح، وشعبه بين مشرد ومطرود ومستسلم للأمر الواقع، وثائر ينتظر الفرصة السانحة.
وطن يمرض لكنه لا يموت، وشعب يصبر ويتحمل لكنه لا يستسلم، وستاتي الفرصة السانحة ليثور على الظلمة والطغاة في الداخل والخارج، وانا غدا لناظره لقريب.