كتابات خاصة

سبتمبر.. الهوية الأولى

عنتر محمد النمر

لا يمكن للإنسان أن يكون أياً من هذه المعاني إذا لم يكن لديه سبتمبره الخاص، إذا عادى أهدافه ومبادئه، سلوكه ومنهجه علمه ورموزه. في التاكسي، يبدو على السائق الكثير من الثقة والصراحة والقليل من الكياسة وهو يقول: ليس لديكم الحق في أن تتعلموا، العلم لأهله وأهله نحن.
فالشخص الذي يورث له أبوه كتباً غير الشخص الذي يورث له أبوه بقراً ليرعاها. أما الآن فقد تعلمتم وقد أصبح لكم صوت. قال هذا الكلام وأنا تذكرت قريتي ذات الـ50 بيتاً، التي لم يكن فيها شخص واحد يجيد القراء والكتابة قبل 60 عاماً.
كان الناس عندما يأتيهم خطاب من عامل الواجبات أو الزكوات، يأخذ الواحد منهم الخطاب ويذهب به الى الفقيه في القرية المجاورة ليسأله سؤال واحد: هل اسمي موجود؟ فيجيبه الفقيه إجابة واحدة نعم أو لا. وهكذا، يرجع بالخطاب فيأخذه الشخص الآخر ويعمل نفس الشيئ.
هكذا يحكي لنا الأباء.. كان بإمكاني معرفة هوية سائق التاكسي بأنه من الإماميين الجدد، أي أنه متخفٍ بثوب الحوثية، من تقديسه لعبد الملك الحوثي، ومهاجمته للقوات الحكومية أثناء إحدى الحروب الست.
أنا سبتمبري، إذا حق لي أن أصنف نفسي فإنه يمكن أن أقول أنني سبتمبري الهوى. تلك هي هويتي الأولى، وقبل الخوض في مدى صحة أن تكون أي هوية أولى من هوية الدين، أقول أنه لا تعارض بين الهوية السبتمبرية وأي من الهويات الدينية والوطنية والقومية والإنسانية؛ بل قد تعنيها تماماً، وهي أساسها دفعة واحدة، ذلك أنها تمنح الإنسان حريته التي يحدد بموجبها هويته التالية كيفما يشاء.
سبتمري بمعاني الكلمة الإنسانية، لا يمكن للإنسان أن يكون أياً من هذه المعاني إذا لم يكن لديه سبتمبره الخاص، إذا عادى أهدافه ومبادئه، سلوكه ومنهجه علمه ورموزه، قادته وشخوصه. ببساطة لأن معاداة سبتمبر تعني تمجيد ما قبله، من حكم الكهنوت والظلام وتمجيد الفرد وتأليهه وتفضيل فرد أو أسرة أو سلالة والجهد المخطط لتجهيل شعب بأكمله.
لقد جاء سبتمبر ليخرج الإنسان اليمني من الغياهب التي بقي فيها وحيداً حين تغيرت كل شعوب الدنيا، لإزالة الفوارق بين الطبقات، وهي التي جثت فوق حياة اليمنيين لمئات السنين. لقد كسر سبتمبر الأسطورة المتوارثة لألف عام والحاجز النفسي الأكبر الذي ظل عائق أمام حريات اليمنيين وانظلاقاتهم، مهما جاءت من ثورات (باستثناء ثورة أكتوبر، نتيجة لطبيعتها واختلاف ظروفها) وتحركات فيما بعد، إلا أن لسبتمبر خصوصيته وهو القضاء على جدار بني على ارتفاع ما بين السماء والأرض فيما بقية الثورات أو الحركات قضت على حواجز مصطنعة عمرها سنوات معدودة.
أعرف أنه تم إهمال الهوية السبتمبرية خلال العقود الماضية، حتى نشأ جيل لا يعرف معنى سبتمبر بل يتبرم منه. لقد تم اختطاف سبتمبر والحيود عن أهدافه حتى لم يتم تحقيق أيا من أهدافه بشكل كامل.  لقد واجهت أهداف سبتمبر تحديات كثيرة كالمناطقية وهو لم يكن مناطقي والفساد وكان من أنزه الثورات وواجه مشروع التوريث الذي ضرب بأحلام ثوار سبتمبر عرض الحائظ. كل ذلك كان مجرد تحديات وعقبات تم تجاوزها ولم تشكل تهديداً وجودياً له.
 لكن ما يواجهه سبتمبر الآن لا يشكل خروجاً عن مساره أو حيوداً عن أهدافه فقط، بل طريق مضاد له يسير عكس منهجة ويسعى الى وأده الى الأبد. تهديد وجودي لأهداف سبتمبر ومبادئه. تهديد العودة الى عهود الظلال والظلام الى تقديس الفرد ومنحه الصفة الإلهية، تهديد تقديس الأشخاص ومنحهم حق تقرير مصائر البشر دون البشر أنفسهم. تهديد تجهيل الناس بشكل متعمد حتى لا يعرفون حق ولا باطل، تهديد العزل عن العالم وتسليم مفاتيح العقل للسيد ليفكر هو بالنيابة، تهديد تسييد بعض الناس على البعض الآخر لمجرد أنه من نسل معين. نهديد يجعل الواحد منا ينزل من على سيارته إذا رأى واحداً منهم حتى يمشي.
في العام 2010 وقبل ثورة فبراير (ثورة الإسترداد)، جاءنى أحد الزملاء، أحمد المعافا، وأنا أستمع الى “نشيد سبتمبر التحرير يا فجر النضال”, فضحك بصوت عال وطنية .. وطنية، واستغرب أن يحرك الشخص الإحساس بالوطنية لدرجة أن يستمع وحيدا الى نشيد وطني. ولأننا كنا في وقت تعد فيه الوطنية ضرباً من السخف، فقد تظاهرت بأن ذلك بداعي الطرب فقط.
والحقيقة أن النزعة السبتمبرية لديّ ليست وليدة نفسها، ولم تنشأ عن أحاسيس مشابهة لأحاسيس أحد من جيل سبتمبر وما قبله وما بعده، بل تأثراً بمن عايشوا ذلك الزمن، تأثرا برموزه علي عبد المغني واللقية والثلايا ووكتابه وشعرائه وفنانوه، شعر محمد محمود الزبيري واليمن الجمهوري للبردوني وقصائد عبد الله عبد الوهاب نعمان وأغاني أيوب وأناشيده هي التي ولدت الإحساس بسبتمبر وأهميته والمعجزة التي يمثلها، وكانت للتغني فقط.
لكن الآن تغير الوضع تماماً، لقد خلقت نفس الأحاسيس التي خالطت جيل ثورة سبتمبر في حينه. لقد أحسسنا بتهديد التفضيل بين البشر على أساس العرق والسلالة، أي إلغاء أحد أهداف سبتمبر المتمثل في إلغاء الفوارق بين الطبقات، لقد عايشنا من يمنح نفسه صفة (السيد) لتمنحه هذه الصفة بعد ذلك كل شيء، لقد عايشنا خلط الدين بالسياسة والطائفية بالمناطقية من أجل حكم الناس رغماً عنهم، وادعاء الحق الإلهي بحكمهم سواء رضوا أم أبوا.
عايشنا كيف يمنح الشخص صفة رئيس الجمهورية بدون انتخابات وينادي “بيا شعبي” دون وجه حق. عايشنا تهديد استغلال الدين وحتكار تفسير القرآن. وحرمان الناس من العلم لأنهم ليسوا أهلاً له.
عايشنا القتل الممنهج والإعدامات خارج إطار القانون ومن سلطة تعرف أنها لا تمثل مرجعية شرعية ولا دستورية، ولكنها تدعي الحق الإلهي.
عايشنا إسناد ما قد يصل 70% من الوظائف العليا للدولة الى 5 أسر. كل ذلك أدى الى إحياء قيمة سبتمبر وإعلاء شأنه. فلم يعد الإحتفال به مجرد تقليد سنوي، بل إيماناً بفضله وعهدا بالسير على دربه، أن الناس سواء أمام القانون.
قريتي الصغرة، تلك التي لا يتجاوز عدد بيوتها 50 بيتا ولم يكن فيها قبل 60 عاماً من يجيد القراءة والكتابة ويبحث الناس عم يقرأ لهم ورقة،  أصبح فيها ما يزيد عن 35  خريج جامعة بشتى التخصصات، وتراجعت نسبة الأمية الى ما دون الـ1% كلهم من كبار السن، ترى كيف كان سيكون حالنا لو لم يأتنا سبتمبر؟!
لن يضيع الفجر من آفاقنا.. فيك لن نرجع لليل عبيدا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى