آراء ومواقف

صمود الاقتصاد العالمي يفوق التوقعات

مارتن وولف

ألقت جائحة «كوفيد 19»، والتوترات الجيوسياسية، والظواهر المناخية المتطرفة بظلالها على سلاسل التوريد العالمية، ما أدى إلى اضطرابات تسببت في نقص إمدادات الغذاء والطاقة، ودفعت الحكومات إلى اتخاذ إجراءات غير مسبوقة لحماية الأرواح وسبل العيش، بحسب تقرير «آفاق الاقتصاد العالمي» الصادر عن صندوق النقد الدولي، والذي رصد الأحداث الاقتصادية منذ بداية عام 2020.

رغم ذلك أثبت الاقتصاد العالمي بشكل عام مرونة في مواجهة الصدمات، لكن من المؤسف، وكما هو معتاد، أظهرت الدول ذات الدخل المرتفع، والتي تتمتع بقدرة أكبر على صياغة السياسات، مرونة أكبر مقارنة بالدول النامية.

وباختصار: «بينما استطاعت الدول المتقدمة اللحاق بمستويات النشاط الاقتصادي والتضخم المتوقعة قبل الجائحة تظهر آثار الجائحة بشكل أكثر عمقاً في الدول النامية».

ومن الحقائق البارزة أن الارتفاع غير المتوقع إلى حد كبير في التضخم قد تراجع بتكلفة منخفضة نسبياً، من حيث الناتج ومعدلات التوظيف؛ رغم ذلك أشار صندوق النقد الدولي إلى أن التضخم الأساسي يظهر علامات على الثبات، والأهم من ذلك أن «نسبة تضخم أسعار الخدمات الأساسية بلغت 4.2 %، أي أعلى بنسبة 50 % مما كانت عليه قبل الجائحة في الاقتصادات الرئيسية المتقدمة والناشئة (باستثناء الولايات المتحدة)».

ويرجع التضخم القوي في قطاع الخدمات بشكل رئيسي إلى الضغوط المتزايدة لإعادة الأجور إلى مستويات تتناسب مع الأسعار؛ ولكن مع تضييق فجوات الإنتاج يأمل الصندوق أن يهدأ هذا الضغط على الأجور أيضاً.

يحتاج كل من الارتفاع الحاد في التضخم، وانخفاضه السريع وغير المتوقع إلى تفسير، ووفقاً لتقرير آفاق الاقتصاد العالمي ترجع هذه الأسباب إلى انخفاض أسرع من المتوقع في أسعار الطاقة، وانتعاش قوي في المعروض من العمالة، جاء مدعوماً بارتفاع غير متوقع (وغير شعبي) في معدلات الهجرة.

وهناك تفسير أكثر دقة لسلوك التضخم، وهو أن التفاعل بين الطلب المرتفع بعد الجائحة والقيود المفروضة على العرض جعل العلاقة بين الركود والتضخم (المعروفة بـ«منحنى فيليبس») أكثر انحداراً (أو بلغة الاقتصاديين «أقل مرونة»). بالتالي ارتفع التضخم أكثر من المتوقع عندما ارتفع الطلب، لكنه انخفض أسرع من المتوقع عندما تلاقت قوى العرض والطلب.

ولعبت السياسة النقدية دوراً في الاتجاهين، حيث قامت بتحفيز الطلب ثم تقييده، وفي الوقت ذاته عززت مصداقية أهداف التضخم عند تشديدها.

ومن الملامح البارزة منذ عام 2020 التغير في العلاقة بين السياسة النقدية والمالية؛ خلال الجائحة، كانت كلتاهما سياسات تيسيرية للغاية، ولكن بعد عام 2021 تم تشديد السياسة النقدية، بينما ظلت السياسة المالية ميسرة، خاصة في الولايات المتحدة.

وتؤدي الزيادات الكبيرة في أسعار الفائدة إلى زيادة العجز المالي، ومع ذلك ثمة تباين كبير بين الولايات المتحدة ومنطقة اليورو في توقعات المالية العامة؛ فوفقاً لتوقعات صندوق النقد الدولي سترتفع ديون الولايات المتحدة العامة إلى نحو 134 % من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2029؛ بينما من المتوقع أن يستقر معدل الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في منطقة اليورو عند نحو 88 % في عام 2024، مع وجود اختلافات كبيرة بين الدول.

كما أن من السمات البارزة للاقتصاد العالمي مؤخراً هو أن تراجع معدل نمو التجارة بين «الكتل» منذ العملية الروسية المحدودة على أوكرانيا في فبراير 2022، في حين أن نما داخل «الكتل»، مثل الكتلة التي تتمحور حول الولايات المتحدة وأوروبا، والأخرى حول الصين وروسيا.

ولم يغير صندوق النقد الدولي رؤيته للاقتصاد العالمي بشكل كبير، إذ يتوقع أن يبلغ النمو العالمي نحو 3 %، بافتراض عدم حدوث صدمات سلبية كبيرة، واستمرار نمو التجارة بما يتماشى مع الإنتاج، واستقرار التضخم، وتخفيف السياسات النقدية، وتشديد السياسات المالية.

وتظهر توقعات الصندوق أن النمو في الولايات المتحدة سينخفض من 2.5 % في الربع الرابع من عام 2024 إلى 1.9 % في 2025، بينما سيرتفع النمو في منطقة اليورو بشكل طفيف إلى 1.3 %، أما في الدول النامية في آسيا فمن المتوقع أن يصل النمو إلى 5 %، بينما يتوقع أن يبلغ نمو الصين 4.7 % والهند 6.5 %.

أما المخاطر السلبية فكثيرة، فقد تكون تأثير السياسة النقدية السابقة أشد تأثيراً مما كان متوقع، ما قد يؤدي إلى ركود اقتصادي، وإذا كان التضخم أكثر صموداً مما هو متوقع، فقد تكون السياسات النقدية أشد صرامة من المتوقع، ما قد يؤثر على الاستقرار المالي.

وقد يكون تأثير أسعار الفائدة المرتفعة على استدامة الديون أكبر من المتوقع، خصوصاً في البلدان الناشئة والنامية، وقد تتفاقم المشكلات الاقتصادية الكلية في الصين بشكل أكبر مما هو متوقع حالياً، حيث يتراجع قطاع العقارات، وتظل الإجراءات الحكومية المحفزة محدودة.

وإذا أصبح دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، وأصدر تدابيره التجارية، قد تكون هناك فرصة كبيرة لنشوب حرب تجارية شاملة، مع عواقب غير متوقعة على الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية.

علاوة على ذلك، هل سيتم حسم الانتخابات الأمريكية بسلام؟ فتفاقم الحروب الحالية أو اندلاع حروب جديدة أمر محتمل أيضاً؛ مثل هذه الأحداث قد تؤدي إلى ارتفاع جديد في أسعار السلع الأساسية، وربما يتفاقم ذلك بسرعة مع التغيرات السريعة في المناخ العالمي.

كل هذا يبدو مقلقاً للغاية، لكن من المهم أيضاً ملاحظة الجوانب الإيجابية المحتملة، فقد تؤدي الإصلاحات والثقة المتجددة إلى زيادة كبيرة في الاستثمار، ومن المحتمل أن يعزز الذكاء الاصطناعي والثورة في مجال الطاقة الاستثمار والنمو، وقد تقرر البشرية في نهاية المطاف أن لديها أشياء أفضل للقيام بها من زيادة العداء والغباء إلى مستويات أعلى.

ويشدد صندوق النقد الدولي على أهمية الهبوط السلس للتضخم والسياسة النقدية، كما يركز على الحاجة الملحة إلى استقرار المالية العامة مع تعزيز النمو وتقليل التفاوت الاقتصادي. وعلى المدى المتوسط يأمل الصندوق بإجراء إصلاحات هيكلية أقوى، بما في ذلك تحسين الوصول إلى التعليم، وتقليل الصعوبات في سوق العمل، وزيادة مشاركة القوى العاملة، وتقليل الحواجز أمام المنافسة، ودعم الشركات الناشئة، وتعزيز الرقمنة، والأهم من ذلك يتطلع الصندوق إلى تسريع الانتقال الأخضر، وتعزيز التعاون متعدد الأطراف، لكن، كما هو الحال دائماً، فإن تحقيق هذه الأمور يعتمد في النهاية علينا نحن.

المصدر: فايننشال تايمز

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى