خطورة التفكير الثنائي مع أو ضد
مع كل أزمة أو حرب تندلع هنا أو هناك وتأخذ اهتماما عاما خارج سياقها الجغرافي، يغلْب على النقاش بشأنها معادلة ثنائية الأضداد: مع وضد حتى يُخيّل للمرء أن الأمر يتعلق بمباراة كرة قدم لا حدث جلل له تداعياته المباشرة وغير المباشرة بحكم ترابط المصالح وامتداد تأثيرات الفاعلين فيها.
ويُمكن ملاحظة ذلك بوضوح في الاتجاهات الشائعة في منصات التواصل الاجتماعي التي جمعت الملايين في منصة واحدة للنقاش والتداول حيال ما يجري ويهمّ الناس وحتى من باب الفضول وملاحقة التفاعلات على أمل الربح المادي من هذه المنصات، مما ساعد في توسع نمط التفكير والتحليل الثنائي السلبي الذي يعكس بشكل أو بآخر مزيج من الشعبوية والعاطفة.
يسود هذا النوع من التفكير حتى على مستوى النخب التي من المفترض أنها أكثر نضجا وعقلانية وتبعا لذلك يقع على عاتقها مسؤولية توجيه بوصلة النقاش بما يعود بالمعرفة والفهم ويسهل على الجمهور العام التفكير بشكل بناء واتخاذ القرارات المنطقية.
فمن أحداث السابع من أكتوبر وما قبلها وتحديدا منذ ثورات الربيع العربي، بدأ التفكير الثنائي يبرز أكثر وينتشر بفضل مواقع التواصل، وهذا لا يعني أنه لم يكن موجودا من قبل، ذلك أن هذا النمط جزء من التفكير بغض النظر عن صحته بيد أنه لم يكن على هذا النحو اليوم.
يكتب أحدهم تغريدة أو منشورا أو تعليقا حول أحداث السابع من أكتوبر وما تلاها فتجد النقاش ينصرف للتقسيم فيقول هذا أنت مع حماس وبقية فصائل المقاومة ويذهب آخر بعيدا عن الموضوع الرئيسي للنقاش لتبني مواقف تجعله على النقيض لمجرد أنه لا يحب تلك الفصائل مع أن القضية ليست سؤالا حول من يؤيد ومن يرفض بقدر ما تتركز حول نقاش الحدث وماذا يعنيك أنت كعربي ومسلم وإنسان.
استدعاء تصنيف شخص أو منحه تصنيفا لا ينتمي إليه بدلا من النقاش حول ما يقوله أو يطرحه بأقل قدر من التأطير الضيق، يزيد الأمة ضعفا وانقساما على الأقل عند الملمات والنكبات كما هو حاصل حاليا، وهذا قد يُفسّر لماذا تأثيرنا ضعيفا في مواقع التواصل ثم بعد ذلك نلوم غيرنا لماذا لا يقوم بما تخلينا عنه.
يشارك أحدهم مقالا أو مقابلة لمتحدث يقول ما يُمكن مناقشته فيه سلبا وإيجابا فينبري مَن يحاكم الحدث بأثر رجعي لمجرد أن التداعيات أمامه وهذا أمر سهل لأي شخص، مع أن المحتوى الذي تم تداوله قد يكون حول قضية مختلفة و إن كانت ذات صلة.
تكمن سلبية هذا النمط من التفكير في أنه يساهم في حالة السلبية واللامبالاة ويعزز شعور التفاعل بدافع التأثر بثقافة منصات التواصل مثل البحث عن التفاعل وجذب المشاهدات للشهرة والربح وبالتالي يكون تعاطي هؤلاء مع الحدث القريب والبعيد مرتبطا بالسطوة الزمنية وبمجرد ما تبدأ في التلاشي يقلّ الاهتمام حتى في القضايا التي تتهدد مستقبلهم.
صحيح أن طبيعة الأحداث تفرض نفسها على الاهتمام، بحيث يطغى الحدث الجديد على القديم كما يحدث في الوقت الحالي مع التركيز على ما يجري في لبنان بينما تبدو غزة منسية ومثلها الحرب في السودان واليمن وهلم جرا من الأحداث، لكن الأمر تجاوز ذلك وأصبح انعكاسا للمتغيرات التي طرأت على الوعي والثقافة وما أحدثته الانقسامات والصراعات المذهبية والتحوّلات السلبية المختلفة.
كنت أعتقد أن التفكير منتشر بين الرأي العام العربي في مواقع التواصل وبالطبع في الواقع، ولكني وجدت أن الجمهور الغربي يتعامل معه بشكل أو بآخر، واتذكر أني في عدة مرات كتبت بعض التعليقات حول الحرب في أوكرانيا فكانت ردود الفعل أني أدعم روسيا مع أني لم أكن كذلك في رأيي لكن لطالما لم أدعم أوكرانيا صراحة فقد فهم هؤلاء أني أقف في الطرف المقابل.
وما يهمني هنا هو حالنا كعرب ومسلمين نبتعد أكثر عما يجمعنا حتى على مستوى الشعوب مع أني أفهم بعض الأسباب التي أدت إلى ذلك لكني لا أجد تفسيرا لمن يتعامل بسلبية مع ما يجري في محيطه وهو ليس مضطرا لذلك لأي سبب كان.
في فلسطين القضية تتعلق بشعب يناضل لحريته واستقلاله منذ عقود ولا يجب اختزالها في هذا الطرف أو ذاك، وحتى لو كان لديك موقف من هذه القوى جميعا أو كانت مسؤولة عن أزمة معينة، فهذا لا يبرر لك اتخاذ موقفا عدائيا ضد القضية والشعب فضلا عن أن تكون في صف المحتل بعلم أو بجهل.
ومثل هذه المواقف يمكن تفسيرها في أسباب مختلفة من بينها أنها نتاج تفكير الثنائيات الذي يجعل منظورك تتعامل مع القضايا المصيرية وحياة الناس وكرامتهم بنوع من المزاج غير المسؤول فتنطلق في نقاشك وتعليقاتك من قاعدة المحقق الأمني هل كنت مع أو ضد، وعندما يكون هذا هو التفكير ينعكس على الفهم ويتحوّل إلى ثقافة وقناعة.
يمكنك النقاش في أي شيء وإبداء رأيك ضد حماس أو حزب الله أو إيران أو أيا كان، دونما الحاجة للتعامل مع الأمور بهذا التصنيف الذي لطالما أحرج بعض أصحابه حينما يأتون مندفعين للتعليقات لتأطير هذا أو ذاك في خانة هذا الطرف أو ذلك حتى وموقفه هو العكس تماما وأبرز مثال على ذلك تغريدة د. خالد الدخيل حول شخصية حسن نصر الله.
هذا التفكير يضرّ أصحابه عندما يواجهون تحديا أو مشكلة ويأتي من يتعامل معها بنفس تعاملهم مع قضايا الآخرين، وبالتالي يصبح كل شيء مؤطرا في طرفي المعادلة؛ فالوطن يُمكن اختزاله في حزب أو جماعة، كأن يتم التعامل مع ما يجري في لبنان على أنه استهداف لحزب الله فقط وهو ما يستحقه في نظر خصومه مع أن البلد كمقدرات وشعب يتعرّض للقصف والتدمير ولكن تأطير الثنائيات أغفل هذا وأبعده عن الاهتمام والتعاطف.
لقد ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في انتشار هذا التفكير ولا أريد أن أسميه ظاهرة لأن هذا يحتاج منهجا بحثيا لتقديره لكن الملاحظ أنه ثقافة عامة، تزداد لأن كل شخص لديه حساب في هذه المنصة أو تلك ويمكنه التعبير عن رأيه كيفما كان دونما إدراك للشعور بالمسؤولية تحت تأثير التفكير الثنائي.
وكما هو معروف، يجتذب المحتوى الغريب والصادم للواقع والمنطق رواجا وتفاعلا بسبب أن كل غريب مرغوب ويحفز الفضول كما يُقال ولأن هذه من سمات منصات التواصل، إضافة إلى رغبة البعض في الحصول على الشهرة والمال، مما خلق مشاهير لديهم تأثير على جمهورهم وهؤلاء ينتمون إلى هذا التفكير السلبي.
التساهل مع هذه المقاربات للقضايا التي تهمنا له تبعات على تعزيز التفاعل الثنائي تجاه المشاكل والقضايا داخل الوطن الواحد نفسه وربما يمتد للمحافظات والأقاليم وهكذا دواليك، وهذا التعاطي يختلف تماما مع وجهات النظر السياسية والاختلافات المشروعة والمفهومة تجاه مختلف مناحي الحياة، ذلك أن المعارضة السياسية أو انتقاد الحكومات في البلدان العربية التي تتمتع بهامش معين من الحرية يعتبر حقا أساسيا بقوة الدستور ولا يصنّف صاحبه في خانة السلبية ما لم يكن كذلك فعلا.
ولتغيير هذا التفكير تدريجيا، ينبغي للنخب والمؤثرين أن يضطلعوا بواجبهم الأخلاقي والقومي والعلمي وذلك من خلال الارتقاء في تعاطيهم مع القضايا التي تهم الشعوب العربية والإسلامية وأن يؤدوا رسالتهم في التنوير والتبصير والتحليل العلمي الذي يعزز الشعور بالمسؤولية والانتماء المشترك لا دفعهم نحو الشعبوية والرؤى الهدامة.
اعلم جيدا أن المهمة صعبة وأن هذا التفكير ينتشر أكثر مما ينكمش وأن هناك أسباب مختلفة تساعده على النمو لتحقيق أهداف لصالح حكومات أو جماعات أو منظمات، ومع ذلك يجب بذل الجهود لتغيير الوعي والمفاهيم وترسيخ خطأ فكرة التعامل مع الأحداث الكبيرة والمهمة والخطيرة مثل مباريات كرة القدم التي من المفهوم أن يكون النقاش فيها حول مؤيد ومعارض لهذا الفريق أو ذلك المنتخب لأنه لا يترتب عليها شيء.
إذا لم تتضافر جهود المؤثرين أشخاصا ومؤسسات لترسيخ تفكير أكثر مسؤولية وأقل شعبوية وثنائية، سيكون هذا التفكير هو المنهج السائد في حياتنا عند العلماء والمفكرين والأكاديميين وسواهم، وغني عن القول تصوّر النتيجة المتوقعة في النهاية.