“الهويشة”.. قصة قرية يمنية تصارع قسوة الطبيعة
“الهويشة” هي القرية الأشد وعورة والأكثر جمالاً في مديرية المقاطرة، وسابقاً، كان أهلها يتدلون من الأعلى بواسطة الحبال.
يمن مونيتور/ وحدة التقارير/ من معاذ المقطري
ما عاد أهالي قرية الهويشة يدلون بأنفسهم بواسطة الحبال وصولاً إلى قعر قريتهم الواقعة بين أحشاء جبال المقاطرة المطلة على محافظة لحج في أقصى جنوب تعز اليمنية.
فالجبال التي نحتوا عليها مساكنهم ومن ينابيعها يشربون، شقوا فيها طريقهم على شكل سلم يغادر بهم عزلتهم بين الجبال.
الأسبوع الماضي احتفل أهالي “الهويشة” و”حيد بلس” بإنجاز هذا السلم الجبلي الذي تراصت فيه نحو 500 درجة، كانوا قد نحتوها بإتقان فوق هاوية “الخرارة” السحيقة على جبل “العتد”، خلال الأشهر الخمسة الأخيرة.
ثلاثة أجيال على “الخرارة”
الهويشة هي القرية الأشد وعورة والأكثر جمالاً في مديرية المقاطرة، وقبل ثلاثة عقود كان أهلها يتدلون من الأعلى بواسطة الحبال من فوق الخرارة..
و”الخرارة” كما تحدث الأهالي لـ”يمن مونيتور”، هي الهاوية السحيقة التي كان أجدادهم يخرون منها، ثم يهب الناس لجمع أشلائهم في أسفل الجبل.
تمتاز الهويشة بوفرة المياه المتدفقة من جبالها على شكل عيون جارية طوال العام ، كما أن ابناءها الذين احترفوا الحياة في زحمة المدن، غادروا حالة الأمية والتحقو بالتعليم مبكرا.
وتتذكر الحجة “فاطمة بنت عبد الله نعمان”، كيف قام عمها الحاج المرحوم محمد فارع الهويش بمدّ أنابيب بلاستيكية من رأس العتد المتاخم لشرف شرجب عبر المنحدر الشاهق، وصولاً إلى القرية..
وتضيف، أن “الناس كانوا يصبون موادهم الغذائية بواسطة هذه الأنابيب في الأعلى وتتلقاها النساء بواسطة الأكياس في القرية!”.
هذه الأفكار قاد بها المرحوم محمد فارع الهويش تدخلات الجيل الأول الذي أسس الهويشة وشيد ديارها الكبيرة في زمن الوصل بعدن إبان الإستعمار البريطاني ..
وقبل أكثر من عشرين عاماً، استيقضت نساء القرية وأطفالها على وجه سيدة هولندية جميلة أتت وطفلاها وزوجها “القنصل الهولندي في صنعاء” بمعية الحاج على سيف الهويش الذي كان يعمل في السفارة الهولندية يوم ذاك..
العائلة الهولندية هذه هي التي تبرعت بنفقات شق طريق العتد يومها، فهب الأهالي للعمل على نحو أوجد ملامح بارزة لطريق ما عاد الناس يخرون منه إلى الهلاك.
والحاج علي سيف الهويش بوصفه الرجل الذي قاد وحشد هبة الجيل الثاني الذي أسس مسيرة شق طريق العتد على نحو يمكن تطويره، وهذا ما حدث اليوم، حين هب جيل الشبان للعمل..
في جروب “الهويشة للترفيه والمعرفة” الذي أنشأوه على “الوتس آب” تزاحمت صورهم ومنشوراتهم التي تحكي للبعيدين والمهاجرين من أهالي القرية كيف تدلوا على الحبال مستخدمين حفارهم اليدوي الصغير لنحت الطريق على الجبل الذي يؤدي بهم إلى شرجب ومن ثم مدينة التربة وسائر المناطق الحضرية في الحجرية وتعز..
يقول المهندس الجيولوجي حمدان عبد الجليل، “إنهم تمكنوا بمساندة الأهالي من شق الطريق على نحو يسهم في إخراج القرية من العزلة”، مؤكدا أن عملية الشق شكلت تدخلاً هندسياً وإنشائياً عميقاً في مسيرة شق طريق العتد الذي كان آباؤهم قد نهضوا به بجهود تعاونية مماثلة قبل حوالي عشرين عاماً.
وأوضح “عبدالجليل” في حديثه لـ”يمن مونيتور”، أن الطريق الذي يسلكه النساء والرجال والأطفال حاملين مؤنهم الغذائية وأشياءهم على رؤوسم وأكتافهم، أصبح اليوم يسيراً ومنبسطاً أمام سالكيه.
المعلم في مجال الإنشاءات أحمد ناجي يصف من جانبه الإنجاز قائلا: استـطعنا تطويع المسافات الأشد إنحداراً فوق “الخرارة” ضمن المسافات الكلية لطريق ينحدر لأكثر من 4 كيلو متراً بالنسبة للقرى البعيدة ضمن عزلة المكابرة، ونصف هذه المسافة وثلثها بالنسبة لقرى الهويشة وحيد بلس.
حرفية الفرق التي امتهنت مكوناتها أعمال البناء والنجارة والحدادة في المدن اليمنية يعدها “ناجي” عاملاً أساسياً لإنجاز العمل على نحو مذهل”، ويشاطره الرأي عبد الرحمن علي، كبير المشرفين على العمل، فالرجل الذي كان قد حشد مساهمات المجتمع لحفر نفق الحرية الذي يربط المقاطرة الشرقية بالغربية قبل عقد من الزمان، يعتقد اليوم بأن مزيداً من المبادرات التعاونية ستمنح القرية طريقاً للعربات والمركبات أيضاً، وهنا ستكون المعجزة”. على حد قوله
العمل مقابل الغذاء
عمال المشروع وداعميه، وأبرزهم منظمة “كير” الدولية، صاروا يتباهون بما حققوه هناك ويعتبرنه إنجازاً غير عادي، قياساً بصعوبة المنحدر الجبلي الذي تقلصت منحياته لدرجة يصعب معها شق هكذا طريق من فوق الخرارة وتحتها أيضاً.
ويحرص الناشط الإجتماعي الشاب “شعيب الهويش” على تقديم الصورة من زواية إنسانية فهو يرى أن “عودة الكثير من الناس إلى قراهم جعل من الأزمة اليمنية التي عصفت بالبلاد فرصة سانحة لاستعادة العمل التعاوني الذي نهجه الآباء حين عوضوا بتكاتفهم وسواعدهم اهمال الدولة لقرانا الجبلية الفقيرة.
وأضاف لـ”يمن مونيتور”، “بدل الفرغة واستجداء المساعدات الإنسانية، وإحنا رقود كان الأجدى بنا أن نستجيب بحماس كبير لعرض “العمل مقابل الغذاء” الذي تقدمت به منظمة “كير” العاملة في مجال الغوث الإنساني أثناء الكوارث والحروب وهذا ما حدث”.
ويتابع، “لقد تمكن الأهالي من شق ثلاث طرق لثلاث قرى، وهي طريق الخزرة المؤدية إلى قرى الشبوطي وحيد بلس وطريق النقيل المؤدي إلى الدهمشة إلى جانب طريق العتد المؤدي إلى الهويشة”.
في بداية شهر مايو/ أيار الماضي، حشدت القرى الثلاث مساهماتها المجتمعية التي بلغت 90 عاملاً متطوعاً للعمل ضمن برنامج “كير” في الدهمشة والهويشة وحيد بلس..
ونفس هذا العدد تقريباً تم حشده من المتطوعات النساء لبرنامج التدريب مقابل الغذاء الذي تبنته المنظمة ذاتها.
تم تقسيم المجموع الكلي للمتطوعين إلى فرق ومجموعات عمل توزعت على الجبال المتلاحمة كجرف سحيق في الحدود الفاصلة بين لحج وتعز.
حضور لافت للمجتمع المحلي
وعلى نطاق أوسع، قامت لجان المجتمع المحلي ومجالس القرى بحشد مساهمات وتبرعات الميسورين من الأهالي لإستكمال بعض مواد العمل الذي لم تدرجها “كير” ضمن المواد التمويلية لدعم العمل.
وقالت “يسر على شمسان”، رئيس مجلس قرية الهويشة إن تبرعات الأهالي المقيمين في القرية وفي المدن والخارج بلغت حوالي نصف مليون ريال تم استخدامها لتسوير الطريق بسياجات حديدية واقية على نحو يضمن عدم سقوط الطلبة والمتسوقين إلى الهاوية.
وتؤكد “يسر” أن أبناء القرية والقري المجاورة أصبحوا على إستعداد أكبر لاستئناف العمل مقابل الغذاء، أو بحشد مساهمات المجتمع الذي بات متحمساً للعمل أكثر من أي وقت مضى..
تلتحم بالهويشة قرى “الدهمشة، الجليلة، والحنان” وصولاً إلى مدينة التربة؛ وعلى الجهة الأخرى “حيد بلس، الشبوطي، الخزفار”، حتى قلعة المقاطرة الشهيرة، المطلة على لحج وعدن، جنوبي اليمن.
والخزفار هي القرية التي انحدر منها القطب الصوفي حميد الدين المقطري، قائد الانتفاضة الأولى للمقاطرة ضد حكم الإمام يحي بن حميد الدين في عشرينيات القرن الماضي.