شنت جماعة الحوثي الانقلابية طوال الأيام القليلة الماضية حملة اعتقالات واسعة، شملت مشائخ ووجهاء وناشطين وكتاب وصحفيين ومدرسين.
وتأتي هذه الحملة الواسعة من الاعتقالات، التي أعقبت عملية مداهمات ليلية لمنازل هؤلاء المعتقلين، وترويع لأسرهم، على خلفية نشاط هؤلاء في رفع أعلام الجمهورية اليمنية على منازلهم، وكذا أنشطتهم الاحتفائية في وسائل التواصل الاجتماعي لقرب موعد الاحتفال بحلول الذكرى الثانية والستين لثورة الـ٢٦ من سبتمبر ١٩٦٢ المجيدة.
يرى الحوثيون أن الاحتفال الشعبي الكبير والتلقائي بذكرى ثورة ٢٦ سبتمبر هو بمثابة استفتاء شعبي عام رافض لمشروعهم الانقلابي الطائفي، وأن هذا الرفض الكبير المتصاعد لمشروعهم يكبر كل يوم كجبل الجليد، وأن تحدي الناس المتزايد لتوجهات هذه الجماعة يزداد كل يوم، وأنه قد يصل إلى مرحلة اللاعودة في رفضه ومقاومته لهذه الجماعة ومشروعها الثيوقراطي الكهنوتي، الذي صادر حقوق الناس وأحلامهم وحرياتهم وآمالهم، وقمع تطلعاتهم بحياة حرة وكريمة.
لهذا كله، بدت الجماعة هذا العام أكثر رعباً ورهاباً من أي وقت مضى من احتفاء الناس بقرب حلول هذه الذكرى، التي يدرك الحوثي جيداً أن احتفال اليمنيين بها يُعد بمثابة استفتاء شعبي عام، يعبر من خلاله الناس عن كرههم وسخطهم ورفضهم الشديد لسلطة الجماعة وممارساتها، التي صادرت المجال العام، وقمعت كل توجه غير توجه الجماعة ومشروعها الطائفي المذهبي الانفصالي.
إن حملة الاعتقالات التي طالت العديد من الشخصيات الاجتماعية، على رأسها الكاتب الصحفي محمد المياحي وعدد كبير من الناشطين، يعكس فعلاً مدى الرهاب الذي أصاب الجماعة، وكيف أصبحت تنظر إلى ثورة ٢٦ سبتمبر كنقيض موضوعي وفكري أيديولوجي لمشروع هذه الجماعة، التي لم تجرؤ حتى الآن- نظرياً على الأقل- على تجاوز ثورة ٢٦ سبتمبر وأهم أهدافها ممثلاً بالنظام الجمهوري، النقيض الموضوعي لمشروعها الذي أبقته كغطاء على شكل الحكم الإمامي، الذي يمارسه زعيمها المتوج إماما للجماعة، وهو المختفي طويلاً في أحد الكهوف الجبلية .
إن ما تعيشه جماعة الحوثي من خوف ورهاب شديد يزداد مع كل مناسبة وطنية، وخاصة مناسبة ثورة ٢٦ سبتمبر، يكشف للجميع مدى هشاشة الجماعة، ومدى خوفها من تنامي الصوت المناهض لها ولمشروعها المذهبي السلالي، بعدما تكشّف لليمنيين اليوم كم كانت ثورة ٢٦ سبتمبر عظيمة ومجيدة بتقويضها لحكم الإمامة الزيدية الهاشمية كأسوأ نظام حكم كهنوتي، لا فيما عرفه اليمن فحسب، بل ربما البشرية كلها، في مرحلة ما بعد الأديان.
ففكرة حكم الإمامة الزيدية- أو ما يُسمَّى في الأدبيات الزيدية بالحق الإلهي للبطنين- يقوم على مسلمة لديهم بأن الحكم هو حق إلهي ممنوح من السماء مباشرة، وبالنص الجلي لأسرة بعينها من الناس، وهي أسرة هاشمية النسب (كالحوثيين اليوم في اليمن)، شريطة أن يخرج شاهراً للسيف، داعياً لنفسه بالحكم، واختصاصه بالمال والعلم دون غيره من الناس، وأن أي خليفة أو زعيم أو إمام لم يأت بهذه الطريقة فإمامته باطلة ولا يجوز اتباعه.
استعادة مثل هذه المقولات الطائفية اليوم، وإعادة تصديرها للمجال العام، بعد عقود من تسيد فكرة الجمهورية، هي إحدى أهم كوارث ما بعد الربيع العربي، وخاصة في اليمن التي تُعد أزمتها السياسية من أعقد الأزمات، لحضور مثل هذه الخطاب والبُعد الطائفي في سياق الأزمة وحيثياتها التأسيسية، ما يجعل هذه الأزمة أكثر تعقيداً وأغرب منطقاً في عالم السياسية.
ولغرابة منطق هذه الجماعة (الديني المذهبي المسيس)، في اعتمادها على مقولاتها المذهبية كقواعد سياسية مقدسة للحكم لا يمكن تجاوزها أو حتى التفكير بذلك، خرج اليمنيون اليوم للاحتفاء بثورة ٢٦ سبتمبر، باعتبارها أهم ثورة في تاريخ اليمن الحديث، وضعت حداً لخرافة الحق الإلهي في الحكم، بقضائها على فكرة الإمامة الزيدية، وتأسيسها لاجتماع سياسي يمني حديث، يقوم على فكرة المواطنة المتساوية في ظل نظام جمهوري ديمقراطي عادل، يعمل على إزالة الفوارق بين الطبقات.
فممارسة هذه الجماعة على مدى سنوات ما قبل وما بعد إسقاطها للنظام الجمهوري، وسيطرتها على العاصمة اليمنية صنعاء في ٢١ سبتمبر ٢٠١٤م، أثبتت لليمنيين جميعاً- وبما لا يدع مجالاً للشك- عودة النظام الإمامي بكل صوره وأشكاله الماضوية، وإن تلفع بعباءة الجمهورية، التي أبقوا عليها اسماً وألغوها واقعاً وممارسة؛ حيث عادت الطبقية المقيته بكل سوئها، وعاد الفقر والجهل والمرض مرة أخرى إلى حياة اليمنيين الذين فقدوا بسقوط دولتهم كل مكتسباتهم الأساسية في الحياة من الحرية والكرامة والمساواة.
ومن ثم فإن احتفاء اليمنيين واحتفالهم الكبير اليوم وعلى مدى السنوات الأخيرة بعيد الثورة اليمنية (٢٦ سبتمبر)، يأتي كاستفتاء عام رافض لهذه الجماعة وسياساتها ووجودها جملة وتفصيلا، ولا يجد اليمنيون طريقة أكثر صراحة في التعبير عن هذا الرفض من الاحتفال بذكراها، تلك الثورة الخالدة في وجدانهم وضمائرهم ووعيهم كأعظم وأهم ثورة حررت اليمنيين من كهنوت الخرافة، ودجل المشعوذين واللصوص، الذين ظلوا زمنا يتلفعون برداء الدين بنسخته الإمامية الزيدية القاتمة كوثيقة مشروعية وشرعية سياسية معاً.
إن هذا الرهاب الحوثي من كل ما يذكّر الناس بثورة ٢٦ سبتمبر، سواء بنشاطاتهم الكتابية في وسائل التواصل أو في رفعهم للأعلام اليمنية على أسقف منازلهم، أو بمجرد وضع أيقونة الاحتفال بعيد الثورة على حساباتهم في وسائل التواصل، كل هذا يعكس حقيقة الهشاشة التي تعيشها وتمر بها جماعة الحوثي، وأنها أكثر ضعفاً وهشاشة من أن تكون كما حاولت مراراً وتكراراً إظهاره للناس، بأنها قوية ومتماسكة بقمعها الشديد لكل من يفكر مجرد تفكير ضدها وضد مشروعها وسياساتها الطائفية المهينة.
ورغم كل ما تقوم به هذه الجماعة اليوم من حملات قمع وترهيب وإذلال وترويع ومداهمة لمساكن المحتفلين بثورة ٢٦ سبتمبر، فإن الناس قد كسروا حاجز الخوف، ومثلما خرجوا العام الماضي محتفين بقوة بذكرى ثورة ٢٦ سبتمبر، فإنهم اليوم أكثر قوة وإصراراً على المضي قدماً للاحتفاء بذكرى هذه الثورة، التي يرونها طوق نجاتهم لاستعادة كرامتهم وحريتهم وحقوقهم، التي سُلبت منهم من قِبل سلطة الأمر الواقع الحوثية، التي أسقطت دولتهم، وحلت محلها في مشهد سوريالي فاضح قلما يتكرر .