لم يستسلم اليمنيون للواقع أبداً، فحياتهم قصة طويلة في مغالبة الصعاب وقهرها، وفلسفة الرفض للأمر الواقع هي الغالبة على طبيعة الإنسان اليمني (فالرفض الدائم والتذمر الدائم أغلب خصائص شعبنا، وإذا كانت غضبة السلاح للكرامة تنهي مهمتها في ساعات أو دقائق فإن الرفض الفكري والتذمر النفسي ثورة دائمة ترفع راية التحدي وتقول لكل واقع: مفروض “أنت مرفوض”) كما يقول البردوني.
امتاز اليمنيون في العديد من الأحداث والصراعات بامتصاصهم للصدمات، وليس التكيف معها، وهي ردة فعل طبيعية في مجتمعنا، الذي مرَّ بالعديد من الأحداث والتجارب العاصفة والشبيهة بما هو حاصل اليوم، فمع كل صدمة سلبية يواجها ابن اليمن فإن ردَّة فعله الأولى لم تكن البحث عن مبررات، ومخارج لقبول الواقع، وانما الترقب للانقضاض.
لاحظ الكاتب الفلسطيني ناصر الدين النشاشيبي في الشخصية اليمنية سمتين من السمات التي تمتاز بهما هذه الشخصية، والتي يجب أن يراعيها كل مهتم بالمجتمع اليمني، والسياسيين قبل غيرهم ليتسنى لهم فهم المجتمع، ومن ثم النجاح في ادارته، وهما سمتا البساطة، والغموض، فيقول إن “طبيعة الأرض الجبلية اليمنية وعرة وطبيعة المجتمع أشد وعورة بالرغم من السهولة والبساطة التي تنطبع في ذهن الزائر منذ أول وهلة تطأ قدماه أرض اليمن … فمن السهولة جداً لأي إنسان قادم أن يتعرف إلى الناس ويخلق معهم لغة مشتركة عن أي موضوع يدور حوله الحوار فالبساطة من العادات التي تميز اليمنيين”.[ناصر الدين النشاشيبي اليمن ذلك المعلوم]
ويضيف الأستاذ النشاشيبي “لكن بمقابل تلك الصفات ثمة جوانب غموض شديدة في الشخصية اليمنية يمكن تسميتها بوعورة المجتمع اليمني الذي يبدو شديد الشبه بجبال المنطقة الوسطى التي تسر خضرتها الناظر ويصعب على غير الخبير تسلقها”.
مع بداية صعود الإمام يحيى ومحاولته فرض سلطته على مناطق شمال الوطن، وسعيه للاستفراد بالسلطة، فقد جوبه موقفه ذلك بالانتفاضات طوال عقدي العشرينات، والثلاثينات من القرن الماضي، بحيث استعرت المواجهات، واشتعلت في مناطق البلد المختلفة، لكن بسبب عدم امتلاك أصحاب تلك التمردات لمشروع تتوحد خلفه الكتل السكانية، فإنه لم يتحقق لها شيء، لذا ظلت انتفاضاتها وتمرداتها مجرد تكرار لدورات الصراع بلا تغيير، وحين كان هناك مشروع منافس ووجدت فيه ما يعبر عن مصالحها فإنها كانت تندفع خلفه.
لقد استطاعت قوات الإمام يحيى أن تفرض سلطته على جميع القوى في شمال الوطن، وذلك بفضل ما تحقق لها من تفوق في السلاح، والإمكانات، ولكن ذلك لم يكن بصورة مستمرة، ولا دائمة، بل ظل المجتمع يبحث عن الوسائل التي تمكنه من كسر هيمنة السلطة الإمامية والتخلص منها.
وبرغم ضراوة الصراع الذي دار بين قوات السلطة الملكية، وبين القوى المحلية الرافضة لسلطته، والطبيعة القاسية التي “طبعت أساليب المواجهة بين الإمام وخصومه السياسيين فإن التمردات الفلاحية والقبلية لم تهدأ وإنما استمرت في التصاعد، فعلى إثر القضاء على انتفاضة حاشد أعلنت القبائل الواقعة غرب صنعاء تمردها ورفضها أسلوب التجنيد الإجباري الذي أقره ١الإمام عام 1919م. ثم تبعتها تمردات قبلية أخرى أهمها عصيان قبائل منطقة الجوف عام 1925م. [د. عبد الملك المقرمي التاريخ الاجتماعي للثورة اليمنية ص 261]. فما إن انتهى من اخماد تمردات القبائل شمال صنعاء، حتى اشتعلت في التهائم، وفي مناطق البيضاء وتعز، بحيث أثبتت التجارب أن الإفراط في القوة لم يضعف القبائل، أو يرغم المناطق الأخرى على الاستسلام، وكانت النتيجة كما يؤكد الدكتور عبدالملك المقرمي أن “الانتفاضات القبلية شكلت مداً ثورياً ضد الدولة الملكية الإمامية، كان رافداً للحركات السياسية اللاحقة، وملهماً لكثير من التيارات المعارضة، فقد أضافت إلى التمردات والثورات الفلاحية حساً جديداً كان أعنف وأقوى أثراً” [د. عبد الملك المقرمي التاريخ الاجتماعي للثورة اليمنية ص 261]
فاستخدام القوة في اليمن قد يدفع المجتمع، لمهادنة الوضع القائم لفترة معينة، ولكن دون القبول به، بحيث تثبت التجارب التاريخية لطبيعة السلطة في البلد ،بأنه ليس بإمكان طرف أو جماعة الاستحواذ على عوامل القوة في المجتمع، مهما اتيحت لها من إمكانات، كما تؤكد الخبرة التاريخية لليمنيين باستحالة استسلامهم ورضوخهم لأي واقع مفروض عليهم، فرغم التخادم الذي تم بين الإمامة، والاستعمار، وانقسام جنوب البلاد الى 24 سلطنة ومشيخة وإمارة، قبل ثورة سبتمبر وأكتوبر، إلا أن تلك الأوضاع لم تفت من عضد اليمنيين، وتحول بينهم وبين التخلص من الإمامة، والاستعمار والتفكك، وإقامة النظام الجمهوري الذي يكفل مشاركة الجميع في السلطة، والحكم، وقد كانت الأوضاع في البلد حينها كما قال أحد العرب الذين زاروا صنعاء في ثلاثينات القرن العشرين شبيهة بما كانت تعيشه البشرية قبل 500عام. ويستطيع القارئ لتاريخ اليمن، أن يلمح بين جنبات هذه الأرض شعباً ما زال يمتلك الحلم، ويتوق إلى غد أفضل، ولم يستسلم بعد، رغم كل مآسيه.