كتابات خاصة

المعتزلة أهم فرق الإسلام دفاعاً عن الدين

عبدالله القيسي

يقول الدكتور محمد سلام مدكور: “ولقد كان المعتزلة بحق فلاسفة الإسلام، وهم الذين كان لهم الفضل -عن طريق نظر العقل- في صد الملاحدة والزنادقة”( ).

وقال عنهم الشيخ محمد أبو زهرة: “إن هؤلاء يعدون فلاسفة الإسلام حقا، لأنهم درسوا العقائد الإسلامية دراسة عقلية مقيدين أنفسهم بالحقائق الإسلامية غير منطلقين في غير ظلها، فهم يفهمون نصوص القرآن في العقائد فهما فلسفيا، ويغوصون في فهم الحقائق التي تدل عليها، غير خالعين للشريعة، ولا متحللين من النصوص”( ).

وقال عنهم: “إنهم قاموا بحق الإسلام من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورد كيد الزنادقة والملاحدة والكفار في نحورهم، وكان لا بدّ من وجودهم ليوقفوا تيار الزندقة الذي طم في أول ظهور الدولة العباسية، ولذا كان الخلفاء الأول من هذه الدولة يشجعونهم، وقد ناوأهم الرشيد زمانا واعتقل بعضهم، ولكنه اضطر لإطلاقهم لما علم أنهم الذين يستطيعون منازلة الوثنيين من السّمنيّة وغيرهم”( ).

ويرى مؤرخ الفكر الإسلامي الأستاذ أحمد أمين أنه في أوائل القرن الثاني للهجرة ظهر أثر من دخل في الإسلام من اليهود والنصارى والمجوس والدهرية، فكثير من هؤلاء أسلموا ورؤوسهم مملوءة بأديانهم القديمة وسرعان ما أثاروا في الإسلام المسائل التي كانت تثار في أديانهم التي تسلحت بالفلسفة اليونانية والمنطق اليوناني في مواجهتها وتنظيم طريق بحثها. كل ذلك دعا المعتزلة إلى التسلح بالعقل والفلسفة لمجادلتها جدالاً علمياً يعتمد على سلاح العقل والمنطق والبرهان، وكان من أشهر رجال المعتزلة في استخدام سلاح الفلسفة أبو الهذيل العلاف وإبراهيم بن سيار النظام وأبو عثمان الجاحظ( ).

ويرى المفكر الأستاذ الدكتور محمد صالح محمد السيد أستاذ الفلسفة الإسلامية أنه يرجع إلى المعتزلة الفضل في تحديد معالم العقيدة الإسلامية والدفاع عنها، ويرجع إليهم الفضل أيضاً في تأسيس الحركة العلمية الإسلامية بوجه عام. ذلك لأنهم لم يكونوا فقط رواداً للفكر الديني، بل كانوا رواداً للفكر العلمي في عصرهم، لتمكنهم من دراسة علوم عصرهم، والعصر السابق عليهم، وانتهائهم إلى آراء مبتكرة سبقوا بها عصرهم إلى عصور أخرى لاحقة، ومهدوا بها السبيل إلى مفكرين غيرهم، وأقصد بهم فلاسفة الإسلام. وإذا كانت المعتزلة قد استخدمت العقل منهجاً لها في مجال الأصول الاعتقادية فإنها مدت استخدامه إلى مجالات أخرى، كالأخلاق والطبيعة، وما بعد الطبيعة فساهمت في بناء فلسفة الإسلام في فترة مبكرة -منذ أوائل القرن الثاني الهجري- تميزت بأصالتها وطرافتها، فاستطاعت أن تصمد في مواجهة الحملات التي وجهت للإسلام، وأن تنتصر لمبدأ التوحيد وتعمق مفهوم العدل في نفوس المسلمين، وتشارك بالرأي في حل مشكلات عصرها، كما أخذت على عاتقها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان لها دورها في النهوض بالمسلمين ومقاومة الجمود الفكري. وبرغم وضوح مبادئهم وسلامة طويتهم، وحسن نيتهم في الذود عن الإسلام، فقد شنت الحملات ضدهم من قبل خصومهم، وكان مصيرهم في هذا الشأن مصير أكثر رجال الإصلاح، فرموهم بشتى التهم، وطعنوهم من كل جانب، فأجهضوا هذا الحركة في بدايتها( ).

وهناك من مخالفيهم من أنصف معهم وكان ينظر لهم باحترام وتقدير، مثل أبو بكر الخوارزمي (ت383هـ) الذي امتدح الاعتزال البصري ( )، والمقدسي (ت391هـ) الذي كان ينظر إلى الاعتزال كمذهب كلامي لا ينفصل عن مذهب السنة، ويعده أحد المذاهب الأربعة الممتدحة في الإسلام ( )، والغزالي (ت505هـ) عد المعتزلة من أصحاب الاجتهاد في الدين، وكل مجتهد مأجور( )، وغيرهم.

وأما ما حصل من فتنة بمحاولة فرض فكرة عبر السلطة في زمن المأمون والمعتصم، فلم يكن كل المعتزلة فغالبية المعتزلة وهم معتزلة البصرة لم يكونوا مع السلطة، وإنما كان معهم اثنان من معتزلة بغداد، ولا يصح تعميم ذلك لكل المعتزلة، أما ما مورس من أهل الحديث واستخدام السلطة ضد المعتزلة فحدث ولا حرج، لقد أتلفوا كل تراثهم وكتبهم ولم يتبق لنا إلا القليل النادر، وهذا أكبر إرهاب فكري، ولكن الناس تذكر حادثة واحدة لأحمد بن حنبل وتنسى أفعالا أكبر وأعظم حدثت بحق المعتزلة.

ومسألة خلق القرآن ليس كما يظنها المتدين المعاصر بعد أن صورها له الخطاب السلفي بصورة زائفة بعيدة عن سياقها، وإنما جاءت في سياق الدفاع عن الدين ضد أسئلة اليهود والنصاري، ومن أراد أن يفهم المسألة بموضوعية فليقرأ ما كتبه الشيخ محمد أبو زهره في كتابه “أحمد بن حنبل”. فقد شرح المسألة وأبعادها بشكل أدق عما هوله الخطاب السلفي المعاصر. أو ما كتبه فهمي جدعان أو عبدالجواد ياسين فكل تلك الكتابات حاولت أن تظهر السياقات كلها للمسألة.

كان في القرون الأولى من الإسلام علم اسمه “علم الكلام” وهو بتعريف ابن خلدون: “علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية”، وبتعريف عضد الدين الأيجي: “علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه”، وأول فرسان هذا العلم هم المعتزلة وربما كانوا آخر فرسانه.

تم صد وهجر هذا العلم والهجوم على أصحابه، ثم تفرغوا للتبديع والتفسيق والتكفير والإكراه وأحكام الردة للمخالف، والانغلاق داخل قوقعة مذهب واحد وغاب ذلك الحجاج العقلي الجميل.

حين كان المعتزلة يناقشون مسائلهم ويطرحون أفكارهم ورؤاهم لم يكونوا يخاطبون الداخل الإسلامي فقط وإنما كانوا يخاطبون الخارج أيضاً، ملاحدة وأديان وفلسفات أخرى، يضعون رؤية في مقابل تلك الأسئلة التي يطرحها الخارج، بينما كان أهل الحديث يخاطبون الداخل فقط ولذا لم يتنبهوا لما يطرح من أسئلة وإشكالات وتناقضات عندهم واستنكروا واستغربوا إجابات المعتزلة.. ليس بالضرورة أن تكون إجابات المعتزلة بتنوعهم صحيحة أو قوية، ولكن تلك المحاولات جعلت الفضاء الإسلامي يفكر ويطور ويراكم التجربة والتفكير، وهذا يوصلنا لمقاربات أقوى.

اليوم يحدث ما يشبه الأمس، من يقرأ ويتابع القراءات والفلسفات المختلفة يحاول أن يقدم إجابات لما استجد من الأسئلة على الدين، ولكن الداخل المتقوقع على نفسه يظن ذلك خروجاً وضلالاً، ولو أنه فتح أذنيه وعينيه على ما يطرح خارج دائرته لعرف قيمة جهود واشتغالات لطالما هاجمها، وأنها في الحقيقة حائط صد يحميه مما هو أكبر.

بعد توسع العالم الإسلامي بشكل كبير في عهد الدولة الأموية وجد المسلمون أنفسهم أمام فرق وأديان كثيرة، زرادشتية ومانوية ومزدكية ويهودية ومسيحية وفلسفات يونانية وغيرها، وكل هؤلاء يضعون أسئلتهم على الدين الجديد الذي بدأ بالانتشار، ولم تكن أسئلة عادية وإنما أسئلة عميقة تحتاج إلى إجابة عقلية قوية، وإلا استطاعوا الحد من انتشار الإسلام، وأوقعوا المجتمعات حديثة العهد بالإسلام في حالة تشتت وشك كبير، هنا تصدى مفكرو المعتزلة بجدارة لتلك الأسئلة، وأصّلوا الأصول ووضعوا المناهج، وتجاوزوا بعض الأفكار الظنية التي كانت متداولة في الساحة الإسلامية، كي ينطلقوا من أرضية صلبة في مواجهة تلك الفرق والأديان، ثم جاءت الفرق الأخرى وصارت معركتها داخلية فقط ومع المعتزلة تحديدا، وبدأوا يلتقطوا تلك القضايا الظنية التي رفضها المعتزلة ليجعلوا منها مثالب وإشكالات وتهم، دون وعي بسياقات تلك الأفكار في مواجهة أسئلة أكبر..

يتكرر اليوم نفس ذلك السياق كله، فبعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي انفتح المسلمون على العالم كله، وبدأوا يسمعوا كل تلك الأسئلة الموجهة للإسلام بعد أن كانوا مغلقين في دائرة جدلهم الداخلي، وهناك تصدى مجموعة من المفكرين والباحثين لتلك الأسئلة، وكي ينطلقوا من أرضية صلبة كان لابد من تجاوز الظنون والأوهام التي كانت مدخلاً لمشاغبات كثيرة، وكي يعطوا إجابات في ضوء منهج متسق، لكن كثيراً من شباب الجماعات والطوائف لم يدرك بعد حجم الأسئلة ولا حجم الجهد المبذول، ولا حجم الشكوك التي تسربت بشكل كبير إلى مجتمعاتنا.. ولذا يشاغبون على تلك القضايا الظنية، ويهاجمون كل باحث ومفكر صادق، ويتعامون عن الجهد الكبير الذي يقدمه أولئك في مواجهك تلك الأسئلة وطرح الإسلام كرسالة عالمية تستطيع أن تواجه كل الأفكار والمذاهب.

 

صفحة الكاتب على فيسبوك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى