وقائع سرقة معلنة
إبراهيم عبد المجيد
طبيعي أن يجذبك كتاب عن سرقة فنية كبيرة لقراءته. ليس لأنها سرقة فنية فقط، لكن لأنها سرقة تتعلق بحقوق رائد ومؤسس الموسيقى المصرية الحديثة سيد درويش. بالنسبة لي ليس ذلك فقط، فالأمر الرئيسي يتعلق بالنشيد الوطني لمصر والمصريين. بلادي بلادي لكِ حبي وفؤادي. النشيد الذي كلما حضرت لقاء ووقفنا جميعا مع انطلاق الموسيقى تحية للوطن، قاومت دموعي كما أقاومها الآن لأني على الفور أتذكر معرفتى عن النهضة المصرية بعد ثورة 1919 وكم دفع الشعب وقادته ثمنا لذلك، وإلى أين وصلنا الآن وما يحدث حولي في البلاد والعباد. إلى جانب ذلك فأنا من المعجبين بكتابات الصحافي البارع خيري حسن، الذي كتبت من قبل عن كتابه «نحن هنا».
لخيري حسن العديد من المقالات الكاشفة، كذلك كتب مثل «يا صاحب المدد.. سيرة الشاعر زكي عمر» الذي فيه أيضا كشف كيف سُرقت أغنيته «مدد مدد شدي حيلك يا بلد» التي ظهرت أيام حرب أكتوبر/تشرين الأول وغناها محمد نوح، فكانت خير مدد لنا. كيف سُرقت الأغنية ونُسبت إلى شاعر آخر هو إبراهيم رضوان. كتاب خيري حسن صدر في هذا الشهر سبتمبر/أيلول عن كتاب اليوم الذي تصدره مؤسسة أخبار اليوم، مع تقديم لشعبان يوسف.
الكتاب صغير لا يزيد عن مئة صفحة، لكنه بحث دقيق في ما يخص حياة سيد درويش، وعميق البحث فيما يخص كيف حدثت السرقة. عنوان الكتاب» سيد درويش المؤلف الحقيقي للنشيد الوطني» وله عنوان فرعي هو «وقائع سرقة معلنة» فالسرقة لم تكن للنشيد الوطني فقط، لكن لأغاني أخرى نسبت تأليفا إلى الشاعر محمد يونس القاضي، الذي عاصر سيد درويش وتعاون معه، لكن توفي بعده بكثير عام 1969. سأبدأ من النهاية، لماذا فعل خيري حسن ذلك، وخصص دراسة على قصرها شديدة الأهمية في اعتمادها على المراجع والمقالات، والمؤسسات مثل، المحاكم والشهر العقاري ودار الكتب وغيرها، حيث توجد الوثائق والحقائق، ومن ثم الأسرار الضائعة. يقول خيري حسن في نهاية الكتاب «أرجو أن نكون قد أخرجنا للناس الحق، أو الذي ثبت لدينا أنه الحق، لا نخشى في ذلك لومة لائم، ليس من أجل سيد درويش فقط، وهو باليقين يستحق، لكن ذلك من أجل الحق والعدل والخير والجمال، ومن بعد ذلك من أجل الوطن».. حتى يصل إلى هذه النهاية يقطع رحلة مؤثرة موجزة مع حياة سيد درويش منذ مولده عام 1892 حتى رحيله عام 1923. في كل فصل من الفصول العشرة يقدم له بجزء من أغنية، فمثلا في الفصل الأول يقدم:
يا حبيبي جود بنظرة
يكفي تيهك والدلال
من بعادك داب فؤادي
أمتى أفرح بالوصال
قلبي حبك وانت عالم
أني مغرم بالجمال»
وهي جزء من دور» يا فؤادي ليه بتعشق» وهي أول أغنية كتبها ولحنها وغناها لمحبوبته «جليلة» وهي مسجلة في شركة ميشان كاسطوانة بصوت سيد درويش. دائما خيري حسن حريص على ذكر شركة تسجيل الأغنية.
ولد سيد درويش في حارة من حارات حي كوم الدكة في الإسكندرية عام 1892 لأب كان اسمه درويش البحر مصطفى، ويلقب بالمعلم درويش، له دكانة فقيرة يصنع فيها الطبالي والرفوف وكراسي الحمام والقباقيب الخشبية. إطلالة على الحياة السياسية والثورة العرابية واحتلال الإنكليز لمصر، والهجوم على أحيائها ومنها، حي كوم الدكة، والحضور السياسي الذي بدأ مع الزعيم مصطفى كامل، الذي ولد قبله عام 1874 والصراع بين الاحتلال والخديوي والنخبة المثقفة.
إطلالة على تعليم سيد درويش الذي أرسله أبوه إلى الكتّاب وهو في الخامسة ليتعلم القراءة والكتابة ويحفظ بعض سور من القرآن. رحلة تعليمه بعد أن مات أبوه في العام التالي لذلك، وكيف صارت أمه ملوك بنت عيد، هي من تتولى تربيته مع أخواته البنات. كيف انتقل من الكتّاب إلى المدارس الأهلية بتفاصيل دقيقة رائعة، وكيف تم فصله من التعليم لعدم حضوره وولعه بالمقاهي واحتفالات الغناء، ومن قابله فيها وحبه للشعر والموسيقى، حتى صار وهو طفل ينشد ما يسمعه في المدارس وغيرها. كان قد بدأ يقرأ الصحف ويقرأ للناس ما فيها ومنها، خطب مصطفي كامل وعباراته الشهيرة «بلادي بلادي بلادي.. لك حياتي ووجودي. لك دمي ونفسي. لك عقلي ولساني. لك لبي وجناني. فأنتِ أنتِ الحياة ولا حياة إلا بكِ يا مصر». كيف تدرج مع الموسيقى، وكيف كان يعمل في البناء مع العمال، وكيف اكتشفه الأخوان أمين وسليم عطا الله، وسافر معهما إلى الشام عام 1909. رحلة حبه وزواجه المتعدد الذي لم يكن يستمر، وكيف اكتشفه الشيخ سلامة حجازي ونجيب الريحاني، والمسرحيات التي شارك فيها. كل ذلك بدقة يضيق عنها المقال، ومنها قصة حبه لغانية الإسكندرية «جليلة» وكيف كانت وانتهت. صراعه مع أهله لأنهم لا يحبون الموسيقى، وكيف قاوم وكيف عمل لإعانتهم. بين ذلك ومعه كيف سرق محمد يونس القاضي نشيد «بلادي بلادي» ونسبه إلى نفسه. كل من رجع إليهم خيري حسن من كتّاب عاصروا سيد درويش أو جاءوا بعده، كتبوا أن النشيد له دون اتهام الآخر بالسرقة، باستثناء إيمان مهران التي نشرت في كتابها الوثيقة التي كتبها الشاعر محمد يونس القاضي وأتاحت له السرقة، دون أن تدري أنها وثيقة مزورة، ومن ثم نسبت النشيد له. حين بدأت الإذاعة في الثلاثينيات كانت تذيع النشيد وتنسبه شعرا إلى بديع خيري، فذهب بنفسه للإذاعة وأخبرهم أنه ليس المؤلف لكنه سيد درويش، لكن الإذاعة لم تذكر اسم سيد درويش وإن ذكرت اسم محمد يونس القاضي، لأن سيد درويش كان محاصرا بعد وفاته عام 1923 من السلطة والإنكليز.
من الغرائب أن محمد يونس القاضي كان مؤلفا لكثير من أغنيات الخلاعة، ورغم ذلك عينه رئيس الوزراء محمد محمود باشا مديرا لقلم مطبوعات الأغاني، ليمنع الكلام الرخيص. مراجع خيري حسن عظيمة، وشخصيات الكتاب التي اعتمد عليها عظيمة مثل محمود أحمد الحفني وزكي طليمات ونجيب الريحاني والعقاد ومحمد محمود دوارة، الذي له أيضا كتاب عن سيد درويش، ومحمد إبراهيم رائد مدرسة تحسين الخطوط في الإسكندرية، الذي له أيضا كتاب بعنوان «الموسيقار سيد درويش» وبديع خيري وجورج أبيض وبيرم التونسي وابنه حسن درويش وغيرهم، كلهم أشادوا بشعر سيد درويش إلى جانب الموسيقى وكثير جدا من مجلات ذلك الزمن، عشرات المجلات، لكن يونس القاضي استطاع بروايات كثيرة ملفقة عن سيد درويش أن يدعي أن النشيد الوطني من تأليفه في أحاديثه، وأنه سجله في المحكمة المختلطة، فضلا عن استيلائه على أغاني أخرى. لقد بدأ حربا على سيد درويش عام 1926 لينسب اغنيات مثل «في شرع مين» و»الحبيب للهجر مايل» و»يا أمي ليه بتبكي» و»ضيعت مستقبل حياتي» و»أنا هويت» و»زوروني كل سنة مرة» وطبعا «بلادي بلادي» وغيرها.
كان من أهم ما رجع إليه خير حسن هو مجمع المحاكم والبحث في الأرشيف، واكتشافه أن الوثيقة التي قال عنها يونس القاضي أنه سجل بها نشيد «بلادي بلادي» في المحكمة المختلطة، مزورة وليست حقيقية، وتاريخها يوم جمعة وهو يوم إجازة، فضلا عن أن المحكمة المختلطة كانت تنظر في النزاع بين الأجانب والمصريين، فما علاقة سيد درويش بها. يلحق بالكتاب بعض صور لصحف ومجلات وغيره فيها أحاديث عن سيد درويش أو مدارسه، التي التحق بها أو زواجه، وإعلانات تثبت أن كلمات بلادي بلادي من نظم سيد درويش وتلحينه معا، ومعها الوثيقة المزورة التي كتبها يونس القاضي بنفسه، وترتبت عليها شهادة جمعية المؤلفين والملحنين في القاهرة بأن النشيد ليونس القاضي، وبها استولي يونس القاضي على الأشعار الدرويشية، وطبعا عائدها المادي. لماذا يفعل مؤلف شهير ذلك، وهل يحدث الآن مثله؟ هذا موضوع جدير بالدراسة.
**كاتب مصري
*نشر أولاً في صحيفة القدس العربي