في رِحابِ الكعبةِ الشريفةِ, يلوحُ أبونا إبراهيمُ عليهِ السلامُ, مالئاً الفضاءَ, مواصلاً احتضانَ ذريتِهِ الموحِّدةِ, الهابَّةِ من كُلِّ فَج. حين يتخطفك الطواف (1-2)
في رِحابِ الكعبةِ الشريفةِ, يلوحُ أبونا إبراهيمُ عليهِ السلامُ, مالئاً الفضاءَ, مواصلاً احتضانَ ذريتِهِ الموحِّدةِ, الهابَّةِ من كُلِّ فَجًّ, مُلبيةً أذانَهُ الأبدِيَّ الحيّ, مُذْ جاءَهُ الأمرُ:
“وأذِّنْ في الناسِ بالحجِّ يأتوكَ رِجالاً وعلى كلِّ ضامرٍ يأتِيْنَ من كلِ فجٍ عميقٍ, ليشهدوا منافِعَ لهم, ويذكروا اسمَ اللهِ في أيامٍ معلوماتٍ على ما رزقهم من بهيمةِ الأنعامِ, فكلوا منها وأطعموا البائسَ الفقير، ثم ليقضوا تَفَثَهُمْ وليُوفُوا نُذُورَهُمْ ولْيَطَّوَّفُوا بالبيتِ العتيقِ” صدق الله العظيم.
كان أبونا إبراهيمُ عليه السلامُ شخصيةً فذَّةً “كانَ أُمَّةً”بصريح القرآن، أمةً بمعناها الواسعِ العريضِ. كان جريئاً،مُقْتَحِماً، شجاعاً، مُواجِهاً.. رجُلَ منطقٍ وصراعٍ. تجاوزَ صراعَهُ مع ذاتِهِ، وشرع في مُقَارَعَةِ أوهامِ واقعه.. وفي بحثِهِ عن اليقينِ، ورحلته إلى الله مبشراً بدعوةِ الإسلام، ظلَّ يخوضُ امتحاناتِهِ حتى منتهاها، مُسلِّماً أمره لله، مجسدا عظمة التسليم،
كان التسليمُ جوهرَ الرسالةِ، قصتَهُ الكبرى. انقذافُهُ في النار، بيقينٍ صارخٍ يُخرِسُ ألسنةَ النيران.. وفي لحظةِ الانتصار تلكْ، يأتي المددُ والتأييدُ.. “قلنا يا نارُ كوني برداً وسلاماً على إبراهيم”!!.. ثم تركه لزوجِهِ وولدِهِ بإلهامٍ من ربهِ في وادٍ غير ذي زرع.. ثم امتحانُهُ في رؤيةِ ذبحِإسماعيلَ ونجاحِهِما معاً في خوضِ هذا البلاءِ المبين “فلمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعيَ قالَ يا بُنيَّ إني أرى في المنامِ أنِّي أذبَحُكَ فانظرْ ماذا تَرَى، قالَ يا أبتِ افعَلْ ما تؤمَر،ستجدُني إن شاء اللهُ من الصابرين * فلمّا أسلمَا وتلَّهُ للجبينِ وناديناهُ أنْ يا إبراهيمُ قد صدَّقتَ الرؤيا إنَّا كذلك نجزي المحسنين إنَّ هذا لَهُوَ البلاءُ المبين* وفديناهُ بِذِبحٍ عظيمٍ وتركْنا عليهِ في الآخِرِين، سلامٌ على إبراهيمَ كذلك نجزي المحسنين”..
كما يبدو التسليمُ أيةَ هاجَرَ الباهرة إذ تركنُ إلى ثقةٍ باللهِ راسخةٍ تُبدّدُ قلقَ التركِ وهواجسَ الانقطاع.
تقرأ في الخطاب الإبراهيمي، كما حكاه القرآن، حضورا مهيمنا لمفردة “الإسلام” باشتقاقاتها المتعددة، ما يدل على أنها جوهر الأمر كله..
“إنَّ الإسلامَ لمْ يأخذِ اسمَهُ من تشريعاتِه ولا نظامِهِ ولا مُحرّماتِهِ، ولا من جُهودِ النفسِ والبَدَنِ التي يُطالبُ الإنسانَ بها.. وإنما من شيءٍ يشملُ هذا كلَّهُ ويسمُو عليه.. من لحظةٍ فارقةٍ تنقدِحُ فيها شرارةُ وعيٍ باطنيٍ، من قوَّةِ النفسِ ومواجهةِ محنِ الزمنِ، منَ التهيُّؤِ لاحتمالِ كلِّما يأتي بهِ الوجودُ من أحداث.. من حقيقةِ التسليمِ لله.. إنه استسلامٌ لله.. والاسمُ: إسلام” بحسب علي عزت بيجوفتش في “الإسلام بين الشرق والغرب”
هي دروسُ إبراهيمَ العظيمةِ في تأكيدِ معنى التسليمِ تتوالى في المخاضِ الرِّساليّ الطويلِ،تعاوِدُ التجسُّدَ في مكةَ من خلال سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وأصحابِهِ الأوائل. مُطلقُالإيمانِ والتسليمِ, مطلقُ الفداءِ والتضحية. حيثُ يكونُ الحقُّ الأسمى أعلى من الذاتِ, أكبرَ من الحياةِ ومن كل شيء. وحيثُ يكونُ سلبُهُ وحرمانُنا منهُ هو الموتُ عينُه. وفي سبيلِ هذا الحقِّ الناظِمِ للوجودِ تهونُ العذاباتُ.. اللذة حينها تعلُو على كل الآلام.
يبدو الخليلُ عليهِ السلامُ في كلِّ الأنحاءِ والأركانْ.. يتدفَّقُ منْ كلِّ صوبٍ, يُضيءُ الحنايا والزوايا, يُشرِقُ في الطَّوافِ والهُتافِ.. يتقدمنا، يدلُنا على أمْكِنَتِنا من البيتِ ومَكانَتِنا من ربِّ البيت.. كلُّ ذرةٍ في رحابِ الكعبةِ تُشيرُ إليهِ بحنانٍ وامتنانْ.. كلُّ شبرٍ يشرق بالجلالِ والمهابةِ، كل مساحة تعبق بالرائحة العطرة.. هو ذا في مقامه الطهورِ صلاةٌ حيةٌ، تعانِقُ روحَهُ مُذ أمَرَنا الله: “واتَّخِذُوْا من مَّقامِ إبراهيمَ مُصلَّى”..
وأنتَ في هذا الموجِ الهادرِ في محيطِ الكعبةِ, تتراءى الحركةُ الدائريةُ كما لو أنها حركةُ أجرامٍ وكواكبَ في مدارٍ كونيٍ هائلٍ, تُمثِّلُ الكعبةُ فيهِ مركزَ الجاذبية.. يتخطَّفُك الطوافُ وكلما حدَّقتَ من عُلوٍّ , لاحَ المشهدُ مهيباً جليلاً ساحراً، آسراً للعيونِ والنفوسِ، ترى فيه مقامَ الشهادةِ ومجدَ الشهود..
سلامٌ عليك وأنت تستلمُ الركنَ اليمانيَّ بكلِّ جوارحِك.. سلامٌ عليك وأنت تقبّلُ الحَجَرَ الأسودَ بملء عينيك، وبشفتي قلبِك.. إذا استبَدَّ الزّحامُ يشدُّك أثرُ الحُب، لا اعتقاد بتأثير، مُتابِعاً كبارَ المحبين, مردداً بروح عمر بهاء الدين الأميري ”
(الحَجَرُ الأسودُ قبَّلتُهُ بشفتي قلبي وكلي ولَهٌ .. لا لاعتقادي أنه نافعٌ بل لهُيامي بالذي قبَّلهْ) ..
وما بين المقام وحِجرِ إسماعيلْ, تستيقظُ اللحظاتُ الأولى من عمرنا المنساب للبيتِ المعمورِ..
هو ذا سيدُنا إبراهيمُ يرفعُ قواعدَ البيتِ, ومعه إسماعيل.. وهذا أنت تهطُلُ من دعائِهِما المرفوعِ لحظةَ التأسيس: “وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ”.
—————–
نقلا عن الشرق القطرية.