تكمن أهمية فهم سياق أي فكرة في تتببين وتوضيح ما لا تستطيع التعريفات وحدها -مهما حاولت- أن توصله من لب فكرة وروحها. في سياق نشأة العلمانية
تكمن أهمية فهم سياق أي فكرة في تتببين وتوضيح ما لا تستطيع التعريفات وحدها -مهما حاولت- أن توصله من لب فكرة وروحها، كما أنه يساعد على الإبداع والإضافة فيها، ويساعد كذلك في سهولة تكييف وتطبيق الفكرة على مجال أو مكان آخر إن تشابهت الظروف كلها أو جزء منها بين الحالتين.
أستطيع تلخيص سياق العلمانية في أوروبا في ثلاثة صراعات حدثت هناك على مدى قرون: أولها صراع الكنيسة الكاثوليكية مع السلطة السياسية، وثانيها صراع الكنيسة مع المحتجين (البروتستانت)، وثالثها صراع الكنيسة مع العلم، كل تلك الصراعات ولّدت وأنتجت فكرة العلمانية على تلك الصورة التي صاغها القانون الفرنسي في عام 1905م.
في القرون الوسطى كانت تتنازع أوروبا سلطتان: زمنية سياسية ودينية كنسية، تتدرج تلك السلطتان من أسفل لأعلى:
أما السلطة السياسية فالفلاحين يخضعون لسلطة النبلاء، والنبلاء يخضعون لسلطة الأمراء الذين يمسكون بزمام مناطق أوسع، والأمراء يخضعون لسلطة الملك الذى يمارس عليهم سلطة وفى نفس الوقت لا يستطيع أن يخوض حربا ضدهم لأنهم أساس قوته وفى أعلى الهرم الزمنى يجلس القيصر الذى هو ملك الملوك وهو الوريث للإمبراطورية الرومانية التي تفككت في القرن الخامس الميلادي.
وأما السلطة الدينية الكنسية فقد كان هناك قس في كل قرية، وهو يتبع الأسقف الذي يتسع مجال عمله ليشمل عدة قرى، والأسقف يخضع للكاردينال الذي يكون مسئولا عن أمور العقيدة على مساحة أكبر من الأرض، وعلى رأس كل هؤلاء يجلس البابا في روما، وهو ممثل القديس بطرس على الأرض.
تعود بداية جذور تداخل الدين بالسياسة إلى اعتناق الإمبراطور الروماني قسطنطين المسيحية عام 312م ، حيث مثل اعتناقه منعطفا مهما في تاريخ المسيحية، أو لنقل في انحراف مسارها، فمن علاقة تطبيع بين المسيحية والإمبراطورية مع غلبة للسياسي إلى حالة تنافس بين السلطتين الدنيوية والكنسية، بدأت بوادرها في القرن الثامن الميلادي، ثم تطورت حتى أفرزت جدالات وصراعات طاحنة، دخلَ الدين جراءها في أوضاع مضطربة.
اعتبر قسطنطين نفسه الحامي للعقيدة المسيحية، فقد كان يدعم الكنيسة بالأموال، وبنى عدد من الكاتدرائيات، ومنح رجال الدين بعض الامتيازات كالإعفاء من ضرائب معينة، وولى معتنقي المسيحية مناصب رفيعة في الدولة، ووهب الكنيسة أراضي وثروات أخرى.
في عام 395م قسم الإمبراطور الروماني ثيودوسيوس الأول الإمبراطورية الرومانية لولديه آركاديوس وهونوريوس فأعطى الأول الإمبراطورية الشرقية مع عاصمة بلاده في القسطنطينية، وأعطى الثاني الإمبراطورية الغربية مع عاصمة بلاده في ميلانو. وسوف يقتصر الحديث على الإمبراطورية الغربية التي منها وعنها نشأت الكنيسة الكاثوليكية بمركزها في روما.
بدأت سلطة الكنيسة مع الحماسة الأولى للملوك الذين آمنوا بالمسيحية والذين قرروا السماح للكنيسة بممارسة سلطات واسعة على الأراضي التي كان الأمراء والملوك يحكمونها، بهدف تعميق المسيحية بين الناس، وكان لانتشار الجهل والأمية وانتشار الإيمان بالخرافة سبب مهم لارتفاع مكانة رجال الكنيسة، فهم وحدهم من يستطيعون قراءة الكتاب المقدس المكتوب باللاتينية، وكانوا يستطيعون الكتابة ويفهمون القوانين وبالتالي كانوا بحكم الواقع يمارسون سلطة على الناس تنافس السلطة التي كانت للملوك والأمراء.
أما قوتهم المادية فجاءت من الإعفاءات الضريبية التي لا يصل للملك منها شيئا، بالإضافة إلى عائدات الزراعة في الأراضي التي يملكونها، والأوقاف التي يديرونها بعيدا عن سلطة الأمراء والملوك، كما كان لهم محاكم تقضى بين الناس خلافا للمحاكم الملكية والمحاكم الإقطاعية.
وهكذا بدأت سلطة الكنيسة تظهر في تداخل مع السلطة السياسية وبدأ معه تنبه الملوك بخطر قوة مركز الكنيسة، وخاصة مع بدء إرسال الحملات الصليبية في القرن العاشر الميلادي، فبدأ الصراع حول السلطة بين الطرفين يأخذ أشكالا متعددة وفي نفس الوقت كان كل منها يحتاج إلى الآخر، فالكنيسة ليس لها جيشا وتحتاج للمحاربين التابعين للملك أو للأمراء لكى تفرض سلطتها على المتمردين على العقيدة. والملوك والأمراء يحتاجون إلى الكنيسة وسلطتها الروحية لكى يعضدوا من الحق الإلهي الذى كان مفهوما بين الناس أنه حق راسخ لهم يضعهم فوق منزلة آحاد البشر. ولكن هذا الاعتماد المتبادل لم يكن يعنى أبدا توافق المصالح. فكل ملك أو قيصر كان عندما يشعر بقوته ويدرك مدى سلطانه إن كان شخصا طموحا بفطرته، كان يناصب الكنيسة العداء ويشق عليها عصى الطاعة ويحاول انتزاع ما يستطيع انتزاعه من مفاتيح السلطة وسبل السيطرة.
يذكر التاريخ أن البابا الإيطالي جريجور السابع كان قد أصدر مرسوما كنسيا يحظر على الملوك ترسيم الأساقفة باسمهم وقصر ذلك على البابا. أي أنه حتى عام 1075 كان الملوك هم من يرسمون الأساقفة أو على أقل تقدير كان ذلك واقعا في سلطتهم. كما أتبع البابا ذلك الأمر بأمر ثان في نفس الوثيقة يجعل من سلطة البابا عزل القيصر، أي ملك الملوك في الغرب. إلا أن الملك الشاب هنري الرابع لم يقبل هذه الاستقطاعات على سلطته ورد على البابا خطابه بخطاب فيه حدة حيث كتب له : “إلى الكاهن هيلدبراندت (كان هذا اسمه قبل أن يصبح بابا) الذى اغتصب الكرسي البابوي وملأ الفساد المادي حياته، إلى الجشع الطماع الذى جاء إلى البابوية عن طريق التدليس، اترك الكرسي لغيرك. اترك الكرسي لمن يستحقه”..
في القرن السادس عشر كانت أعظم ضربة وجهت للكنيسة هي حركة الاحتجاج التي جاءت من داخل الكنيسة نفسها (البروتستانت 1517م)، والتي حاولت الكنيسة أن تقضي عليها بكل قوتها، فشنت على البروتستانت حربا طويلة أدخلت أوروبا في صراعات امتدت لعشرات السنين، وخاصة واتسعت رقعة الصراع بعد أن قوي البروتستانت واتسعت رقعتهم باعتناق إنجلترا ودول الشمال المذهب. كان أشد هذه الحروب ما اطلق عليه (حرب الثلاثين عام).
رافق ذلك الصراع كله صراع بين الكنيسة والعلم في بعض المراحل ابتداء من القرن السادس عشر، برز ذلك الصراع جليا في محاكمة كوبرنيكس عام 1543م القائل بأن الشمس مركز الكون وخالف فيها ما كانت الكنيسة تعتقده من أن الأرض مركز الكون وأن الأجرام السماوية كافة تدور حولها، ولم ينج من محاكم التفتيش لأنه كان قسيساً بل لأن المنية أدركته بعد طبع كتابه بقليل، فأفلت من عقوبة الكنيسة، التي حرمت كتابه، واعتبرته من وساوس الشياطين. وجاء بعده “برونو” بتأكيد نفس النظرية، فسجنته الكنيسة فأصر على رأيه فأحرقته، ثم جاء “جاليليو” فأيد النظرية فلقي في السجن العذاب والمهانة، وكاد أن يلقى نفس مصير برونو لولا أنه خشي على حياته فأعلن ارتداده عن أفكاره أمام رئيس المحكمة، وراح يلعن ما توصل إليه ويصفه بالإلحاد، وتعهد بالإبلاغ عن كل ملحد يوسوس له الشيطان بتأييد مثل هذه الأبحاث المضللة!!
ثم جاءت الثورة الفرنسية في عام 1789م كضربة قاصمة لسلطة الكنيسة، تلك الثورة التي كان شعارها “اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس” في إشارة إلى أن الاستبداد الكنسي كان أعظم من الاستبداد السياسي، ففقدت الكنيسة من سلطتها الكثير.
وهكذا استمر الصراع حتى تم حسمه في النهاية بأن نشأ مبدأ عدم تدخل الكنيسة في شئون السياسة والحكم وفصل عملها الروحي –بحسب كل دولة- عن نشاط سن القوانين (التشريع) أو القضاء أو ممارسة سلطة التنفيذ. على أن تساهم الدولة في دعمها وتقوية رسالاتها عن طريق الوضع القانوني لشخصياتها الاعتبارية حيث تحولت إلى ما يطلق عليه جمعيات عامة يحق لها ممارسة النشاط الاجتماعي وجمع التبرعات وإقامة المشاريع الغير هادفة للربح والتي تغطى فقط تكاليفها. كل هذه المزايا فقط في مقابل أن تخرج الكنيسة من الحياة السياسية وشئون الحكم وتبقى صوتا للضمير يرتفع في القضايا الاجتماعية مثل أي صوت آخر للنقابات أو جمعيات رجال الأعمال أو ما شابه ذلك.