الأخبار الرئيسيةفكر وثقافةكتابات خاصة

بدايات إبراهيم الحمدي (2)

يمن مونيتور/ من مروان المنيفي

لقراءة الجزء الأول

إبان الحملات العسكرية التي كانت ترسلها صنعاء إلى المناطق الوسطى الحدودية لقمع التمرد الثوري المدعوم من النظام الجنوبي، كان الحمدي يشغل نائب رئيس الوزراء للشؤون الداخلية، ومن بعد ديسمبر/كانون الأول 1972م، نائب للقائد العام رأس واشرف على تلك الحملات العسكرية وفي حوادث منها شكل محكمة عسكرية ونفذ أحكام الإعدام على الضباط والعسكريين الثوريين الذين يتم القبض عليهم بتوافق منسجم مع رئيس الوزراء عبدالله الحجري الذي بالإضافة لرئاسته الوزارة كان عضو في المجلس الجمهوري السلطة العليا ويمهر منفرداً توقيع الأحكام، وكذا يظهر مشاركة اسم عبدالله عبدالعالم قائد المظلات في إحدى وقائع تلك الأحداث.

نجد في مذكرات اللواء محمد عبد الله اللوزي قائد الحرس الجمهوري نماذج من برقيات العقيد الحمدي إلى اللوزي خلال قيادة الأخير الحملات العسكرية إلى قعطبة والحشا الحدودية، وفي البرقيات الخطية بيد الحمدي والمذيلة بتوقيعه يطالبه “ارسال العناصر التخريبية بالحراسة المشددة إلى صنعاء وموافته بكل جديد”.

كانت الصحف اليسارية العربية في تغطيتها للشأن السياسي اليمني تفضح ما تصفه بالتصفيات الدموية للقوى الوطنية، ولم يتضرر الحمدي أي شيء جراء ارتكابه العسكري الاعتباطي غير المستوفي لشروط العدالة، ومن توتر العلاقات إزاءها بين الرئيس الإرياني والحجري أي انه لم يتخذ ضده إجراء عقابي: عزل نهائي من المنصب أو نفي للخارج أُسْوة بحسن العمري الذي عانى لفترة زمنية أزمة نفسية وتحت ضغطها ارتكب قضية قتل جنائية انهت مشواره السياسي والعسكري.

سرى النفي والعزل والتجريد من كافة المناصب للعمري، ولم يطال الحمدي حتى ان الرئيس الإرياني سُرر بتغطية الصحف اللبنانية والكويتية التي راجت عن حادثة واستبشاع جناية العمري والإعجاب بالجمهورية العربية اليمنية التي أقامت العقوبة المستمدة من الشريعة الإسلامية السمحاء على صاحب أعلى رتبة عسكرية.

الغريب في الأمر ان اللواء محمد علي الأكوع وزير الداخلية في حكومة الحجري وتشاطر مع الحمدي المسؤولية الأمنية، وأحد أشهر كتبه ورواة تاريخ الحركة الوطنية، هو وحده من نشر عام 1999م سلسلة مقالات تناول فيها بعضا من خلفيات الرئيس الحمدي منذ صباه حتى اغتياله، في صحيفة الأسبوع المملوكة لصحفيين ناصريين، غير أن الصحيفة بعد ترحيبها الحار أول الأمر بما كتبه ونتيجة لما أثارته شهادة الأكوع من جدل، في أوساط بعض التنظيمات السياسية وأشياع الحمدي امتنعت عن نشر أي مقالة للأكوع بعد ذلك.

حين قرر الفريق العمري في ليلة من منتصف 71 القيام بالانقلاب كان أول وحدة عسكرية ذهب لتجهيزها وتنفيذ انقلاب هي معسكر قوات الاحتياطي العام الضاربة التي يقودها الحمدي، لاعتقاده ان ولاء وطاعة افرادها ستنصاع لأوامره، بيد ان الحمدي تصد له عن ذلك ضامناً ومُصمماً ولاء جنودها وضباطها الوطني إلى يوم طلوع 13 يونيو.

من أغرب بنود المصالحة عام 1970 تعيين أشخاص من ذوي النيات الحسنة بالأخص في الألوية والمناطق المجاورة للمملكة العربية السعودية، وهي المحافظات اليمنية التي لم يحضر للدولة الجمهورية وجودها السياسي والاجتماعي؛ وخلال تبوؤ الحمدي منصب نائب رئيس الوزراء للشؤون الداخلية وإعلان مشروع الاصلاح المالي والاداري ترأس اجتماع لمجلس الوزراء عند غياب الرئيس وأقر بتوجيهات خاصة تنفيذ توصيات أحد أعضاء المجلس لزيارة محافظة صعدة ودراسة احتياجاتها وتطوير المكاتب الحكومية.

وقد بقي الأمراء الصغار من بيت حميد الدين في صعدة والجوف حتى نهاية السبعينيات، منهم الحسن بن الحسين في صعدة ومحمد بن الحسين في الجوف ويعلق الرئيس الإرياني في هامش من مذكراته الجزء الثالث ان ذلك “كان بإيعاز من السعودية رغم المصالحة وانتهاء الحرب لأنها تريد ان يظل سيف التهديد مصلتاً على عنق الجمهورية، وفي شهادة ورواية أغرب ذكرها الشيخ ابواصبع عن حرب الجبهة الوطنية وتواجدها واهتمامها في عمق شمال الشمال ان الشخص الثالث من قتلة الزبيري التحق بمجاميع الجبهة الوطنية اليسارية في العبر بمحافظة حضرموت لكنه نصحه بالمغادرة والنجاة من السجن أو القتل حتى لا يعرف الجنوبيين انه من قتلة عالم فاضل كالزبيري.

دوافع قبائل ذو حسين محافظة الجوف ونسابتها مع محمد بن الحسين للالتحاق بالجبهة الوطنية المسلحة كما يرويها ابواصبع ان محمد بن الحسين نجل الإمام مزاج بإماميته هوى ثورياً مؤيد زحف النظام الجنوبي على صنعاء بدعوى انها تحت النفوذ السعودي الكامل وهي التي مولته ثمان سنوات حرباً على الجمهورية.

ستكون الرواية مكتملة لو ان شهادة الرئيس الإرياني من الجزء الرابع لمذكراته عن 13 يونيو هي المركزية للكتاب حيث أنه دوماً يصب على الشخصيات من حوله شرح نفسياتها وطموحها وقنوات إتصالاتها، حتى ان كُثرة المرات التي قدم القاضي الإرياني استقالته من رئاسة المجلس الجمهوري تستدعي الاحصاء، ولا يمكن تفسير تأخير نشرها بعد وفاته عام 98 وهي إلى اليوم عقدين من الزمن الا انها حسابات وتأني لما بداخلها لمجريات السنتين الأخيرتين من حكمه والانقلاب عليه والدور السعودي بما قد يسيء للمنفذين المحمولين بشعبية من اليمنيين.

ومن أشهر استقالات للرئيس الإرياني وذاعت أخبارها حين اعتزل في سوريا أغسطس 1973، وتحول مقام إقامته في اللاذقية مقصد للزيارة والدعوة للعودة والعدول منها آتية من دول عربية، قرر مجلس الوزراء تشكيل وفد رسمي وشعبي للسفر إلى سورية وكان إبراهيم الحمدي نائب القائد العام رئيساً للوفد المطالب بعودة الرئيس لممارسة سلطاته الكاملة التي ينازعونه إياها.

نشط الحمدي في هذه الزيارة بمحمل مواهبه وصفاته فقهياً وقاضياً يمتلك ناصية الخطابة والبلاغة أمام الرئيس الإرياني بالثني عليه بالبقاء والاستمرار، وأضمر في آن معاً الخطابة والبلاغة التي لم تحين بعد لسلطته ويرسخها بالصوت والصورة.

من الصعب تحديد زمن فكرة الانقلاب أو الحركة التصحيحية غير انه “أمرٌ دُبر بليل” لكن الاحتقان السياسي داخل أروقة السلطة لم يحجب عن الرئيس الإرياني في الفترة الأخيرة من حكمه معرفته بطموح وجدارة الحمدي للوصول للسلطة حيث بنى له شعبية من خلال الحركة التعاونية وبذكاء شديد يبدو الحمدي في مذكرات الإرياني بارع في تقديم نفسه لدفع التهم والشبهات عنه في بعض المواقف والظروف بما يوافق سياسة الرئيس الإرياني وثقته به.

قدم الحمدي ما كشفته الأجهزة الأمنية عن مخطط انقلاب دبرتها عناصر بعثية مدعومة من العراق هم أصلاً في مناصب مدنية متدنية تعجز عن صنع تغيير، كان ذلك قبل انقلاب الحمدي الحقيقي والجاهز للتنفيذ بأيام قليلة وقدم ذلك ذرٍ لرماد ما يستعد له، لقد تجمعت له بالبراغماتية الفكرية والسلوكية لحظة حركته للتغيير من وقت مبكر عوامل نجاح مكتملة: هي شخصيته العسكرية والسياسية وعلاقاته الاجتماعية بالقوى والشخصيات الفاعلة المشائخ الأحمر وأبو لحوم ومجاهد أبو شوارب قائد لواء المجد، وقادة الوحدات العسكرية والأسلحة من آل أبو لحوم والغشمي ليكافأهم فيما بعد بطرق مختلفة بعد ظنًا من كل هؤلاء العصبة  ان الحمدي شخص ضعيف ومطيةً يسهل الاستغناء عنه.

وكانت تلك الخلية مستمسك حاسم للشيخ الأحمر لإزاحة الإرياني وحشد القبائل لاجتياح صنعاء كما هو دأبها التاريخي؛ على انه يرمي الشيخ سنان بمدبر الانقلاب والطاقة المحركة وأقنعه به وفي نفس الوقت لعب دور ماكر إلى جوار الأستاذ النعمان للتوسط بينه وبين الرئيس الإرياني وهو حانقًا في معقل خمر، وبالمثل الشيخ سنان يرد على الأحمر باعتباره صاحب المشروع مملياً به على الجميع؛ وهم قد قاموا بفترة قصيرة من موعد الانقلاب بزيارات خارجية كان فيه التحضير والتوافقات للتغيير فيه كامل الرغبة والمساندة من شقيقة الجوار المملكة العربية السعودية.

يكشف المرافق الخاص للرئيس الإرياني يحيى الكوكباني في مذكراته التي صدرت عام 2011 وأشرف على متابعتها وتقديمها الشاعر والمؤرخ مطهر الإرياني باعتباره معاصراً للمرحلة، ان نفوذ وعيون الشيخ سنان أبو لحوم وصلت من العام 73 إلى القصر الجمهوري ومكتب الرئيس، وكان قائد الحرس العميد عبدالكريم الجبوبي يتصل مع الشيخ سنان ويرفع له بشكل منتظم نشاطات الرئيس الإرياني يومياً داخل المكتب وتحويلة القصر تلفونياً إلى الحديدة.

أكثر من موضع بالكتاب تستهوي المؤلف مزاعم حسين المسوري رئيس الأركان في رغبته العسكرية الابتعاد عن السلطة والحكم وإمساك طموح إقدام الحمدي للزعامة، والحقيقة ان المسوري وبعض من العسكريين هم ريش الفريق العمري المتحمسين لالغاء المجلس الجمهوري برؤوسه المتعددة واستبداله دستورياً برئيس جمهورية، وبفورها يمكن الدخول المباشر في معركة مع الجنوب بدعم سعودي، وآخر من ليبيا القذافي تقدمه للمعارضة الجنوبية في الشمال بقيادة العقيد عشال.

ما يدفع المسوري لتلك الآراء عن العلاقة بين الجيش والسياسة ووصّم حركة 13 يونيو بفاتحة الانقلابات وإعاقة التطور والبناء هو الشعور بالنغّص ناجم من عدم توليه منصب أكبر وقد استبعدته الحركة سفيراً للقاهرة والإرياني القائد العام في لندن غير ان الأخير لم يحمل على الحركة وقائدها الحمدي الصديق الحميم ما يحمله المسوري.

يقصّ القائد العام للجيش الإرياني حكاية طريفة ففي إحدى اللقاءات مع الجنوب برئاسة علي ناصر محمد في الراهدة في الشهر الأخير قبل الانقلاب لبحث نزاع الشطرين لمح له صالح مصلح وزير الداخلية الجنوبي بالإنذار بشأن نائبه العقيد الحمدي وقال له “ألحس صاحبك بمعنى سارع إلى تصفيته، وبعد ان أصبح الإرياني سفيراً منفياً بلندن اتصل به مصلح وذكره مش قلت لك تلحسه”.

وهل ينطوي وصول علي عبدالله صالح هو إعاقة التطور والبناء حد زعم المسوري – فقد عمل وخدم في أوج عهد صالح  أمينًا لأمانة العاصمة طيلة 12 عام ورئيسا لفرع حزب المؤتمر وآخر في تنفيذية الأمانة العامة والشورى!

عطفاً على مذكرات اللواء عبدالله الراعي ينسب قول ليحيى المتوكل في مذكراته مفاده ان مجلس القيادة الذي قام به الحمدي للحكم لم يشر إلى اسم الجمهورية لأن السعودية لا تحبذ التسمية، بوصفه نظام حكم مُعرف هويته مثل المجلس الجمهوري.

وهذا القول ليس موجود للعميد المتوكل في مذكراته المعنونة ب”حضور في قلب التاريخ”  ولن يجازف بقول كهذا يسحق من مشروعية قيام الحركة باعتباره صانع أساسي من مقر عمله سفير بالقاهرة وعاد إلى صنعاء قبل يومين من وقوعها يصطف إلى جانب عشرة من أعضاء مجلس القيادة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى