كتابات خاصة

نِهايات مُتجانسة لأحرار الهضبة

بلال الطيب

قِلةٌ هُم الذين يُشيدون لأنفسهم عُروشاً زاهية في صفحات النضال، حَميد القُشيبي واحدٌ من هؤلاء، لم يَخن وطنه ولا شرفه العَسكري، مَضى بـ «عرجته» مُدافعاً عن «الجمهورية»، فكان آخر مَعاقلها، أفرادٌ من قبيلته شاركوا في رسم نِهايته، فكانت نهايتهم عبيداً، وما زالت تُرعبهم عَصاه. قِلةٌ هُم الذين يُشيدون لأنفسهم عُروشاً زاهية في صفحات النضال، حَميد القُشيبي واحدٌ من هؤلاء، لم يَخن وطنه ولا شرفه العَسكري، مَضى بـ «عرجته» مُدافعاً عن «الجمهورية»، فكان آخر مَعاقلها، أفرادٌ من قبيلته شاركوا في رسم نِهايته، فكانت نهايتهم عبيداً، وما زالت تُرعبهم عَصاه.
غير «القُشيبي»، ثمة أحرار كُثر من ذات المُحيط، وهبوا أرواحهم رخيصة في سبيل التحرر من الاستبداد والكهنوت، منهم من قضوا نَحبهم، ومنهم من ينتظرون في «المنافي» و«المعتقلات»، ستظل سيرهم المُلهمة نقطة مضيئة في تاريخ مُظلم، أرادوا لأهلهم الحرية، فأبوا إلا أن يعيشوا حياة العبيد.
المُحاولات الفَردية في تغيير مَسار التاريخ عن سياقه المَعهود، تبقى خَالدة حتى وإن لم يُكتب لها النجاح، وكما انتهت مُحاولة العلامة محمد بن علي الشوكاني في تغير سلوكيات أئمة عصره بوفاته «1250هـ»، انتهت مُحاولة القاضي محمد محمود الزبيري في تهذيب القبيلة باغتياله «1385هـ»، ويُحسب لكليهما شَرف المُحاولة.
لا أحد كـ «الزبيري» ناهض الإمامة، وكشف مَثالبها، واستشرف مآلاتها الكارثية، عاد بعد نجاح الثورة السبتمبرية إلى الوطن، مُفعلاً الروح اليمنية على مبادئ الإسلام، مُساهماً في تقريب وجهات نظر القوى المُتصارعة، كمرجعية صادقة، وأب للجميع، فكان كما قال عنه رفيق دربه «النُعمان»: «أطهر مخلوق عرفته الأرض»، لديه روح نقية، وقلب يسع الكون، قال أنه سيهبه لوطنه، فكان ما أراد.
«25» عاماً وأكثر، قضاها مُتنقلاً من منفى إلى آخر، جَعلته لا يرى في القبيلة إلا إيجابياتها، عدَّها جيش الثورة المُنقذ، ولأجل تسليحها أختلف مع «السلال» و«المصريين»، ليسقط في الأخير شهيداً وهو رهن حماياتها، حتى قتلته تم تهريبهم، ولم يتم الكشف عن هَويتهم حتى اللحظة.
أثر «الزبيري» في القبيلة ومشايخها، نجح في استقطاب شيخ «حاشد» عبدالله بن حسين الأحمر، لتتحول ذات القبيلة إلى نصير بارز لـ «الجمهورية»، وداعم ساند لـ «الأحمر» في حربه الثأرية ضد بيت «حميد الدين»، الذين قتلوا أباه وأخاه، نهاية العام «1959».
مُنتصف ذلك العام، عاشت صنعاء وتعز لحظات عصيبة، استغل الأمير «الحسن» غياب أخوه الإمام أحمد، فأوعز لأنصاره القيام بعمليات تخريبية، انتقاماً لحرمانه من ولاية العهد، استنجد الأمير «البدر» بالقبائل، استغلوا ضعفه الشديد، وطلبوا الأموال الطائلة نضير مساندتهم له، وفي ذروة ابتزازهم دعموا طموحات الثائر حميد بن حسين الأحمر، ونصبوه رئيساً لـ «جمهورية» يتيمة، حضرت في زامل:
سلام يا حاشد ويا صُبة بكيل
من بعد هذا تسمعون أخبارها
إمامنا الناصر ومن بعده حميد
سبحان من رد العوايد لأهلها
عاد «الناصر» أحمد من «روما»، وأطلق لحظة وصوله ميناء الحديدة خطاب مُجلجل، أسماه «الصرخة الكبرى»، قال فيه: «لن يخيفني أخضر ولا أحمر، وهذا الفرس وهذا الميدان، ومن كذّب جرّب»، وردد:
ماذا يريدونها لا درَّ درُّهمُ
إن الإمامة لا يطوى لها عَلمُ
غادرت القبائل صنعاء مفزوعة مذعورة، توالت الحملات العَسكرية عليها حتى سلمت ما أخذته؛ وفوقه رهائن جديدة لتأكيد الطاعة؛ أما حميد الأحمر الثائر المخدوع، فقد خذله «المُتفيدون»، وامتنعوا عن نُصرته، وحالوا بينه وبين «بيحان»، المنطقة التي عزم على الهرب إليها، وسلموه هدية للطاغية أحمد، بعد أن نهبوا «جنبيته» وأمواله، وكان مصيره وأبوه الإعدام بحد السيف.
بِظهور العلامة المجدد «الشوكاني»، شهدت «الإمامة الزيدية» تَغير نوعي في مسارها السياسي، كانت نصيحته الصادقة مَسموعة عند أئمة عصرة، حاربه دعاة التشيع، واتهموه بقتل أحد مشايخهم، ليحاولوا قتله وهو يلقي دروسه في الجامع الكبير، واستمر حقدهم عليه حتى بعد وفاته، وقد حاول الإمام «الناصر» عبدالله بن الحسن نبش قبره، وإخراج رفاته، وهي لم تتحلل بعد.
لم يقتصر التجديد في الفكر الزيدي على علماء «قحطانين» فقط، فهناك علماء «هاشميون» نبذوا التقليد، وانتصروا للعقل، العلامة محمد بن إسماعيل «ابن الأمير» أشهرهم على الإطلاق، قارع الأئمة، وشدد النكير عليهم، وله قصائد ومكاتبات كثيرة تؤكد ذلك، تعرض لمحاولة اغتيال، ثم الحبس، ومنع من إلقاء خطبة الجمعة، واستمر التضييق عليه حتى وفاته «1182هـ».
العلامة صالح المقبلي، هو الآخر كانت له مناظرات مع علماء عصره، وصلت إلى حدود المنافرة، قال في احدى ردوده:
قبح الاله مُفرقا
بين القرابة والصحابة
فكان الرد:
أطرق كرا يا مقبلى
فلأنت أحقر من ذُبابة
ووصلت الخسة ببعضهم أن طعنوا بنسبه، يقول أحدهم:
والمقبلي ناصبي
أعمى الشقاء بصره
لا تعجبوا من بغضه
للعترة المـطهرة
فأمه معروفة
لكن أبوه نكرة
حينذاك، عاف «المقبلي» المقام بصنعاء، ورحل بأهله إلى مكة المُكرمة، وفيها مات «1108هـ».
ذات التصرف انتهجه من قبل العلامة محمد بن إبراهيم الوزير، إمام السنة في زمانه، أغضب فكره المتحرر هوى المُتعصبين، ضيقوا عليه أيما تضييق، غادرهم، وغادر صنعاء، وعاش في الجبال وحيداً، حتى توفى بالطاعون «84
يبقى نشوان الحميري الاسم الأكثر حضوراً في قائمة الأحرار الوطنيين، الذين عملوا على إذكاء مشاعر العزة والكرامة في قلوب اليمنيين، تمرد على «الإمامة» ومُسلمتها الإقصائية «البطنيين»، وأعلن نفسه مَلكاً، مُستغلاً انتسابه لأحد ملوك «حمير»، إلا أن القبائل خذلته وانتصرت للوافد الغريب؛ الإمام أحمد بن سليمان.
كانت لـ «نشوان» عدة مناظرات مع ذات الإمام، قال في إحداها شعراً:
إن أولى الناس بالأمر الذي
هو أتقى الناس والمؤتمن
أبيض الجلدة أو أسودها
أنفه مخرومة والأذن
أيها الشيعي هيا فلقد
طالما استولى عليك الوسن
ودعوا اللعن لمن خالفكم
لعنة الله على من يلعن
فما كان من الإمام المُتعصب «ابن سليمان» إلا أن رد عليه:
نشوان شيعي إذا جادلته
وإذا كشفت قناعه فيهودي
بل وأوعز لأنصاره تشديد الخناق عليه، الأمر الذي جعل «نشوان» يغادر بلدته «حوث»، متوجهاً إلى «اليمن الأسفل»، وقيل أنه أستقر في «جبل صبر»، ومات فيه «573هـ».
أزعجت الطموحات «النشوانية» الأئمة الزيود، الأمر الذي حفزَّ الطاغية عبدالله بن حمزة، على إصدار فتوى أباح من خلالها قتل أي يمني غير فاطمي يتطلع للرئاسة، ورد على «نشوان» بأرجوزة طويلة، تؤكد حقه وأسرته في السيادة، والأسوأ من ذلك قتله لحوالي «100,000» من أبناء مذهبه «المطرَّفية»، لأنهم تخلوا عن شرط «البطنيين»، وسعوا لتجريد «الزيدية» من طبيعتها السلالية.
يُعد «لسان اليمن» الحسن الهمداني المؤسس الأول للمنطلقات التحررية الوطنية، دافع باستماته عن اليمن ومجدها الحضاري، ودفع ثمناً لذلك عدة سنوات من عمره، وقيل أنه مات في سجون الأئمة «334هـ»، ولأنه أنكر «هاشمية» بعضهم، وألحقهم بالفرس، عملوا على طمس موروثه، ولم يعثر من أشهر كتبه «الإكليل»، إلا على أربعة أجزاء فقط، من أصل عشرة، وغير بعيد قال أمين الريحاني أنه وأثناء تواجده في صنعاء، قيل له إن ذات الكتاب موجود كاملاً في مكتبة الإمام يحيى؛ فأين ذهب إذن؟!.
«سجنٌ، ومَنفى، واغتيال» ثلاثية مُتجانسة رافقت حياة أحرار الهضبة، أحرار اليمن، ذكرنا البعض، وأغفلنا آخرين، لتشابه النهايات لا أكثر، فنهاية «جغمان»، و«الوريث» و«المُطاع»، و«سيف الحق إبراهيم» و«الكبسي» و«الموشكي»، وغيرهم، تتشابه وجميع ما ذكرناه، بذكرهم تتجلى الوحدة الوطنية بأبهى صورها، وبذكر غرمائهم من «سادة» و«عبيد»؛ تحضر الطائفية والمناطقية بأسوأ صورها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى