المنظمات الأممية.. من مجاراة الصرخة حتى توطين التحويث
سيرة ابتلاع العمل الإنساني إلى بطن المليشيا
ماذا لو أن الحكومة المعترف بها دوليا طلبت من المنظمات الأممية والدولية العاملة في مناطق سيطرتها تنظيم لقاءات مع موظفيها لمدة خمسة أيام في عدن لمناقشة تحديات العمل الإنساني وكيف يمكن التعاون للمضي قدما بما يخدم المحتاجين والمستفيدين؟
يمكن لي أن افترض أن المنظمات سترد باستغراب بأن الوقت المقترح أكبر مما ينبغي ويمكن مناقشة كل ما يهم الطرفين في ثلاث ساعات، ولن تحتاج للتبرير، وأتوقع أن توافق الحكومة دون عتاب أو تعقيب.
ماذا لو قلت لك الآن إن هذه المنظمات وقياداتها طاروا من الفرح عندما طلب منهم الحوثيون ذلك وحددوا كل شيء سيتم مناقشته لدرجة أن حضور الموظفين يقتصر على الاستماع لما يمسّ استقلالية عملهم ويقلل من قيمتهم، بل وترديد شعارهم الرسمي المعروف باسم “الصرخة”، وكأنهم أعضاء في الجماعة لا موظفين مُلزمين بالحياد بحسب لوائحهم والقانون الدولي الإنساني.
لقد حدث كل هذا على مدى خمسة أيام في نادي ضباط القوات المسلحة في العاصمة صنعاء، وكانت “اللقاءات”، أقرب إلى “الدورات الثقافية” التي يقيمها الحوثيون وتأخذ هذا الوقت في الحد الأدنى ولا تختلف مضامينها كثيرا عمّا دار مع الموظفين الأممين.
سنتوقف هنا مؤقتا لسرد تفاصيل الفرحة التي انتابت المنسق المقيم للأمم المتحدة ومنسق الشؤون الإنسانية أيضا، جوليان هارنيس ومدراء منظمات أممية عندما طلب منهم الحوثيون التحضير لما سمّوها “اللقاءات”، والتي اتضح أنها “دورة ثقافية” كما سنبين ذلك لاحقا.
في أحد اجتماعاته مع المدراء القطريين في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية غير الحكومية، بدا هارنيس الذي تعين في منصبه في فبراير الماضي، حوثيا بلباس أممي وتجلى ذلك بوضوح عندما أبلغ المجتمعين أن الحوثيين “ربحوا الحرب” وأن دور الأمم المتحدة يقتصر على دعمهم، وهذه التفاصيل أوردتها أكثر من خمسين منظمة ومؤسسة مجتمع مدني محلية في بيان مشترك قبل أيام.
ما قاله الرجل يفقده الاحترام والتفويض الممنوح له بالخروج عن مهمته مما يمنح الحكومة الحق في اعتباره شخصا غير مرغوب فيه وتطلب تغييره لكن هل ستفعل ذلك وهي حينما حاولت قبل سنوات تراجعت سريعا وقد كان لديها من أوراق الضغط ما لا تملكه اليوم؟
القصة لم تنتهِ بعد، ففي مطلع الشهر الجاري، وصف مدير برنامج الغذاء العالمي بيير هونورات لقاءاتهم القادمة مع الحوثيين بالفرصة لإعادة بناء الثقة معهم وإثبات أن البرنامج شريك موثوق وذا مصداقية، وهو كذلك بالنسبة لهم.
الأمر يبدو تنافس محموم بين هؤلاء المسؤولين لكسب رضا الحوثيين، وهذا ما سنلاحظه في قول مدير الأمن في برنامج الغذاء بأن تلك اللقاءات فرصة لـ”إظهار الاحترام” للحوثيين. ماذا بقي الآن؟ تم إخطار الموظفين بترك هواتفهم في المنزل أو تصميتها، ومنعهم من تسجيل الاجتماع أو التقاط الصور، والعهدة على بيان المنظمات سالف ذكره.
والآن لابد وأنك متشوّق لمعرفة تفاصيل “الدورة الثقافية” ومعك حق في ذلك، فهي تختلف نوعا ما من حيث المكان ونوع الطعام عن تلك التي تُعقد لآخرين في أماكن مجهولة.
تقدم الأشقر هارنيس المشاركين ومعه مدراء منظمة الصحة والغذاء ونوابهم وقرابة ٣٢٨٧ موظفا بحسب إعلام الحوثيين، وقد أصغوا جميعا لوعظ ديني ألقاه عليهم القيادي الحوثي إبراهيم الحملي أمين عام “المجلس الأعلى لإدارة وتنسيق الشؤون الإنسانية والتعاون الدولي”.
وهذا المجلس هو جهاز استخباراتي تم استحداثه ضمن هياكل موازية، وظيفته تحديد قوائم المستفيدين، وتوفير التصاريح لأي تحركات لموظفي منظمات الإغاثة، وكذلك تحديد المؤسسات المحلية المؤهلة للعمل في توزيع المعونات بوصفهم مقاولين أو شركاء تنفيذ محليين أو مراقبين من طرف ثالث للمشاريع الإنسانية.
وبينما كان الحملي يلقي نكات تحقيرية عن الموظفات، كان زملائهم الذكور يضحكون ثم أدى موظفو الصحة العالمية وبرنامج الغذاء العالمين “الصرخة” أمام مدرائهم، في المقابل رفض زملائهم في اليونيسف وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي فعل ذلك.
بحسب الزميل الصحفي صادق الوصابي، وهو موظف أممي سابق، فقد طالب الحملي المنظمات بمعاملة اليمن مثل أفغانستان فيما يتعلق بتغطية تكاليف سفر المحرم للموظفات، وأصرّ على ضرورة تمكين الرجال أولاً وأكد أنه ينبغي على الموظفات الراغبات في السفر أن يتزوجن.
في أثناء ذلك، حرص الحملي على توجيه رسالة جماعته للمنظمات وهي إحلال الموظفين اليمنيين بدل الموظفين الأجانب وحصولهم على نفس الامتيازات.
قد يبدو هذا الطرح مقبولا لمن ينظر إليه من زاوية مصلحة اليمنيين لكنه ليس كذلك لأن التوطين الذي يسعى له الحوثيون ويدعمه هارنيس بقوة لا يفسح المجال لليمنيين من أصحاب الكفاءة والمؤهل والخبرة بقدر ما يفتح الباب للمنتمين لهم والموالين ومن تنطبق عليهم معاييرهم.
أما الدليل على ذلك، فهو تعميم أرسله الحملي نفسه لممثلي المنظمات الدولية، طالبهم فيه بسرعة إرسال هياكلها الوظيفية موضَّحاً فيها المسمى الوظيفي، واسم الموظف الذي يشغل الموقع، والالتزام بأخذ الموافقة المسبقة من المجلس الذي يتولى أمانته العامة قبل استكمال إجراءات توظيف أي كادر محلي أو أجنبي.
وبحسب التعميم ذاته، فقد وافق ممثلو المنظمات على ذلك في اتفاق مسبق مما يعني أنهم تخلوا عن مبادئ الحياد والاستقلالية وصلاحياتهم دون إبداء مقاومة.
وبمجرد بدء عملية التوطين، يكون الحوثيون وضعوا أيديهم بشكل شبه كامل على المنظمات ذلك أنهم سيضعون أعضائهم والموالين لهم محل الموظفين الأجانب لينضموا لمؤيديهم الموجودين فيها بالفعل.
ماذا يعني ذلك؟ أولا تنفيذ رؤية الحوثيين الأيدلوجية على المنظمات والتي تشمل منع تعاطي لقاحات الأمراض باعتبارها مؤامرة يهودية لا أساس علمي لها، وقد حدث هذا عندما رفضوا طلب منظمة الصحة التطعيم ضد كورونا، وزعموا حينها أن الحفاظ على المناعة والصحة يكمن في الالتزام بتعليمات زعيمهم.
وفي الوقت الراهن يرفضون حملة التطعيم ضد فيروس شلل الأطفال دون اكتراث لخطورة المرض الذي ينتشر في مناطق سيطرتهم، كما يرفضون الاعتراف بتفشي مرض الكوليرا والسماح بحملات مواجهته، بحسب تقرير حديث لمنظمة هيومن رايتس ووتش.
ثانيا يستكمل الحوثيون سيطرتهم شبه الكاملة على موارد وعمليات وبرامج المنظمات بما يخدم مشروعهم السياسي في السيطرة على المجتمع وتفخيخ عقول الأطفال ويوفر لهم ملايين الدولارات، ويكفي أن حجم التمويلات المالية للمنظمات طوال سنوات الحرب بلغ ٢٠ مليار دولار وفق بعض التقديرات.
وقد بين تقرير مشروع مكافحة التطرف المكاسب التي يحققها الحوثيون من المساعدات الموجهة إلى اليمن، بتقدير تقريبي ومتحفظ بأن ميزانية هذه المساعدات تبلغ نحو 2 مليار دولار سنوياً، وبافتراض أن نحو 1.5 مليار دولار من المساعدات موجهة نحو المناطق التي يسيطرون عليها وهي مساعدات تصل بتحويلات غير مشروطة للموارد.
ولقائل أن يسأل وماذا تستفيد المنظمات في هذه الحالة والجواب أن الذين يديرونها يهمهم البقاء في مناصبهم والحفاظ على امتيازاتهم الشخصية وتسيير العمل في الحيز المتاح لضمان استمرار التمويل، ولهذا السبب تتغاضى الأمم المتحدة عن انتهاكات الحوثيين وتتهرب من وضع خطوط معينة تلزمهم بعدم تجاوزها.
أخيرا، ينبغي أن نضع في الحسبان، أن المنظمات يمكن لها في أي وقت تشعر بتراجع التمويل أن تلجأ إلى تضخيم الحديث عن خطر المجاعة الوشيك والإكثار من تفشي الأوبئة لا حبا في السكان وإنما حبا في استحلاب الدعم.
يبقى أن يتخلى هارنيس عن ربطة العنق تماشيا مع التزامه بهوية الحوثيين والمشاركة في احتشادهم الأسبوعي في السبعين ومضغ القات مع أحد أصدقائه منهم.