في مثل هذا اليوم الثلاثين من أغسطس/ آب من عام 1999، رحل الشاعر الكبير والأديب الاريب والمفكر الاستثنائي الأستاذ عبد الله البردوني، يرحمه الله، وهو في السبعينيات من عمره. في مثل هذا اليوم الثلاثين من أغسطس/ آب من عام 1999، رحل الشاعر الكبير والأديب الاريب والمفكر الاستثنائي الأستاذ عبد الله البردوني، يرحمه الله، وهو في السبعينيات من عمره.
ولي مع هذا الإنسان قصةُ صداقةٍ دامتْ سنوات، ومن فرط حضوره في خاطري لم أكتب عنها، يا لها من مفارقة!، حيث يُفوِّت شابٌ مغمورٌ مثلي فرصةَ الكتابة عن قصة صداقة جمعته برجل ملأت شهرته الآفاق، وله من الحضور في فضاء العربية ما يغنيه عن كتابة كاتب أو إشادة معجب.
خلال السنوات التي أمضيتها معه قارئاً للأجد من الكتب، والإصدارات لمدة ساعتين يومياً، أتيحت لي ليس فقط قراءة هذه الكتب، بل فهم مضمونها وفهم لغتها والجديد من المفردات اللغوية التي كنت دائماً أتوقف عندها متسائلا عن المعنى، فأحصل على إجابة لا يمكن أن تتيحها الكتب أو المدارس.
رغم فارق العمر، إلا أن الأستاذ الكبير كان من التواضع إلى حد أن نشأت بيني وبينه صداقةٌ حقيقيةٌ تقوم على شعور خاص بالاحترام. ساعتان يومياً استمرت لأكثر ثلاث سنوات، كنا خلالها نلتقي ونقرأ وكنا نستهلها باستعراض المستجدات السياسية من وحي ما تنشره الصحف والمواقف التي تصدر عن القوى السياسية في فترة كانت تموج بالأحداث ويغلي فيها قدرُ الأزمة ويغلي حتى انفجر في صيف العام 94م.
كنا نتقاسم القناعةَ ذاتها بفساد النظام السياسي الذي يهيمن عليه المخلوع صالح، كانت مواقف الرجل حيال هذا السياسي المخادع عقلانية، وقد استقر على أن صالح ليس صالحاً أبداً وأنه يقود البلاد إلى شفا الهاوية.
في السنوات التي اصطحبت هفيها كانت قناعاته السياسية أنضج من أن تحسب على هذا التيار أو ذاك، إذ كان أشبه بمن اعتلى تلاً مرتفعاً وبات بوسعه أن يرقب المشهد وهو على مسافة واحدة من كل اللاعبين في هذا المشهد.
تزودت بكل دواوينه، وكتبه، لم أكن أميل إلى الشعر كثيراً،ومع ذلك كان يشدني في شعره البعد الفكري والقراءة الاستثنائية للواقع، والعلائق الإنسانية التي تنعكس في مفرداته الشعرية المتميزة.
اقتربت كثيراً من أسلوب تفكيره، وكنا نسرح معاً في قصص عديدة، عاشها فيما مضى، وعبر من خلالها عن مواقفه حيال الأحداث والأنظمة والتطورات، ذلك أفادني كثيراً في سبر أغواره وفي فهم طبيعة تفكيره ومواقفه السياسية والفكرية.
كانت تتردد كثيراً قصص عن الخصومة الفكرية والأدبية بين شاعرنا الكبير والدكتور عبد العزيز المقالح، في الحقيقة لم يكن الأستاذ معنيا بكل ما يقال، لكنه كان يدرك أن الشاعر الكبير المقالح مفتون بالسلطة، ولم يكن يتردد في الاتصال به إذا ما طلب منه أحدهم التوسط لدى الدكتور المقالح.
ألطف موقف هو ذاك الذي شهدته عندما قام الأستاذ بإجراء اتصال مع ابن بلدته مقرئ الديار فضيلة العلامة الراحل محمد حسين عامر، أكثر ما شدني في هذه المكالمة لغة الخطاب المؤدب بين الرجلين وكنت أتخيل الشيخ عامر على الطرف الآخر من الخط وهو يكرر نفس الإيماءات فقد كان اتصالٌ بين كفيفين أنارت بصيرتهما الدنيا.
في غرفته الصغيرة في منزله ذي الطابقين بالحي السياسي بصنعاء، كان الأستاذ عبد الله البردوني يستقبل زواره، كان يشغل زاوية تقع على يسار الداخل إلى الغرفة، وكانت هذه الزاوية هي مربضه للمعيشة وللنوم، كان هناك طاولة تشكل حداً فاصلاً بين الجالسين في الغرفة وبين الزاوية الخاصة بالأستاذ وعليها راديو ناشيونال، هي النافذة التي يطل بها على العالم ويستقي عبرها أخبار العالم، وبجانب الراديو ترمس الماء الساخن والمغلف الذي يحتوي أكياس الشاي، وصحنٌ صغيرٌ يحوي كمية من السكر لضيوفه أما هو فقد كان يشرب الشاي بدون السكر الذي كان يعاني منه إلى أن توفي رحمه الله.
لم تكن هناك ساعة محددة للنوم فقد كان ليله كنهاره، حتى أنه كان ينام بينما أقرأ له، وهذا الأمر يتكرر مع بقية أصدقائه الذين يزورونه بانتظام، من غير رفيقه الدائم وكاتبه الخاص محمد الشاطبي، ومن أبرز من رافقه من أصدقائه اللواء أحمد العقيلي الذي كان يمضي مع الأستاذ ساعتين تنتهي عند بدء الموعد المخصص لي أي من الساعة الخامسة حتى السابعة مساء.
عشت تفاصيل حياته الخاصة، وتابعت عن قرب قصة تعلقه بطفلة، لم أعد أتذكر اسمها، وقد أحيت تلك الطفلة في الأستاذ مشاعر الأبوة التي حُرم منها، فتدفق قلبه بالحب ولم يكن يدري ماذا يقدم لهذه الطفلة التي تعلقت به وأحبته.
وعشت بعض تفاصيل علاقته الأسرية، عشت معه الحزن والفرح، حين كان يضحك حتى يملأ المنزل مرحاً وحين كان يبكي حتى يمزق القلب. كانت شبكة علاقته العائلية مع أسرته الصغيرة والكبيرة، واهية إلى حد كبير، لذا بدا بالنسبة لي مثل نبتة نشأت في صحراء قاحلة جداً لكنها ملأت العالم ظلالاً وحباً وإحساساً بالجمال.
ذات يوم قلت له لقد أكملت دراستي الجامعية، فقال لي هل استلمت الشهادة؟ فأجبته لدي الشهادة المؤقتة. وكنت قد أبلغته اهتمامي بالعمل في حقل الصحافة واخترت وكالة الأنباء اليمنية (سبأ). قال لي غداً الساعة التاسعة صباحاً تأتي إلى المنزل، فذهبت في الموعد وأخذني بسيارته بصحبة سائقه محمد المحويتي، إلى وزارة الإعلام ومنها إلى وكالة الأنباء، وخلال ساعتين كانت الوظيفة جاهزة. كان يقول للمسئولين هذا ابني وأنا أضمن كفاءته.
يا له من إنسان عظيم ذلك الأستاذ الذي عرفت، كم كان رائعاً ليس لأنه رمزٌ إبداعيٌ بل لأنه إنسان بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معاني استثنائية.