انكمشت الأماني، وتراجعت الأحلام، وصارت «الغُربة» خيار الجميع المُر، رفع «الأئمة الزيود» من وتيرتها، ضيقوا على «الرعية الشوافع» أيما تضييق، أجبروهم على الرحيل، في مشهد مؤلم، انكمشت الأماني، وتراجعت الأحلام، وصارت «الغُربة» خيار الجميع المُر، رفع «الأئمة الزيود» من وتيرتها، ضيقوا على «الرعية الشوافع» أيما تضييق، أجبروهم على الرحيل، في مشهد مؤلم، تكرر بكثافة طوال عهدهم البائس، ولم يبق في القرى الخضراء سوى «الشيوخ، والأطفال، والنساء»، يندبون حظهم العاثر، ويشكون لله ظلم الإمام، وجور العساكر، ويبكون فراق «الأب، والابن، والأخ، والزوج».
الرحلة لم تعـد «شتـاء» أو «صيـف»، بل صارت في كل الفصول، ومسكونة بـ «بالجوع» و«الخوف»؛ وكأنه قدرنا «مزقناهم كل ممزق»، وحين جاء الأئمة من بيت «حميد الدين»، مزقوا الشعب اليمني شر تمزيق، وكان عهدهم حسب توصيف الشهيد محمد أحمد نعمان: «قاتم النظرة للوجود، بطبيعة قادته القادمين من المغارات والكهوف؛ والجبال الجرداء السوداء، وعناء المعركة الطويلة المدى مع الأتراك، والثقافة الشيعية الحاقدة على الوجود».
من اللحظات الأولى لاجتياح عساكر الإمام يحيى مناطق «اليمن الأسفل»، وقع الرعية بين خيارين، كلاهما مُر: البقاء أو الرحيل، وحين وزع الطاغية بنيه على أعمال اليمن، اشتد الظلم، وعمَّ البلاء، وفي ذلك قال الشهيد محمد محمود الزبيري:
والشعبُ في ظِلّ السيوفِ ممزقُ
الأوصالِ, مضطهدُ الجَنابِ يضامُ
وعليه إمَا أنْ يُغادرَ أرضَهُ
هرَباً وإلا فالحياة حِمامُ
وبلغة التعزي الموجوع، ترجم الشاعر أحمد الجابري المشهد المؤلم، بغنائية حزينة، فيها دعوة صريحة للهروب من ذلك الجحيم:
المطر يسكب
مو يفيد نصرب
والذئاب تقرب
هربوا جا الليل
أجبرت الظروف بعض أولئـك الهاربون على الالتحاق بـ «الجيش البريطاني»، و«الجيش الإيطالي»، وبنشـوب الحرب العالمية الثانية حلت الكارثة، وحـَدث أن تقاتل «الأخـوة» تحت راية تلك الـدول المُتصـارعة، إلا أن ما يَطمس ذلك الوجع، دعم ومساندة هؤلاء للحركات التحررية بالداخل، لتلمع أسماء كثيرة لمهاجرين قدموا الغالي والنفيس في سبيل انتصار القضية، سجل الاستاذ سعيد أحمد الجناحي أدورهم باستفاضة بالغة، في كتابه: «أوائل المغتربين وحكاية العبور إلى الوطن».
كانت أغلب بلـدان الله مَحط رحال، ومهوى أفئـدة، وكانت عَـدن المدينة، والحبشة الدولة، الأقرب لذلك اللجوء الاضطراري، تشاركهما عديد دول «افريقية» و«أوربية»، وإن بنسبة أقل، انقادت إليها الخطى بلا توقف، واستقبلت اليمنيين بلا عراقيل، ككائن أدمي مُرحب به، احتكوا بثقافتها، وأنشأوا فيها مستوطناتهم، ونظموا أنفسهم، ولم يعودوا يفكروا بالعودة إلى الوطن، حتى تعود العدالة، والكرامة المسلوبة.
مع نهاية العام «1959» توجه الاستاذ أحمد محمد نعمان من القاهرة إلى عدد دول المهجر، بغرض التعرف على أحوال المهاجرين فيها، وجمع تبرعات لإنشاء «كلية بلقيس»، كصرح تعليمي يلم شتاتهم، ويربط أولادهم بوطنهم الأم، وفي ليبيا التقي بعدد منهم، ممن سبق والتحقوا بالجيش الإيطالي في الحبشة، حيث قادتهم «الدولة الفاشية» إلى هناك، لمحاربة إخوانهم العرب، إلا أنهم أنظموا إلى صفوف الثوار، وقاتلوا تحت قيادة البطل العربي الشهير عمر المختار.
وجدهم «النعمان» وأقرانهم في تونس «راضون عن أحوالهم ومعيشتهم، لا يفكرون بأمر اليمن، ولا يخطرونها على بالهم»، وبالنسبة لليمنيين المتواجدين في المغرب، فقد سجل «النعمان» إعجابه الشديد بهم وبأحوالهم، فهم حد وصفه مُهتمون بالتعليم، شديدو الحنين للوطن، وقدر عددهم في «الدار البيضاء» وحدها، بحوالي «1,000» مهاجر.
إحصائيات اليمنيين في باقي البلدان لم تكن دقيقة، وسأكتفي هنا بذكر أهم بلدين توفرت إحصاءاتهما، الأولى «بريطانيا»، حيث بلغ عدد اليمنيين فيها حوالي «60,000»، وذلك في العام «1946»، والثانية «الحبشة»، فقد قدر عدد المهاجرين فيها، وفي ذات الفترة، بأكثر من نصف مليون، وما يميز اليمنيين في هذا البلد أنهم انشؤوا مدرسة كبرى، تخرج منها الآلاف، أشهرهم الأديب محمد عبدالولي، الذي خاطب أقرانه ذات «أقصوصة»: «لا تنسوا أنتم.. أن هذه الأرض لن تنفصل عنكم، مهما هربتم، إنها جزء منكم، تطاردكم، ولا تستطيعون منها فكاكا، أنتم يمنيون في كل أرض.. وتحت كل سماء..».
غير «الجنون»، ثمة مآسي كثيرة عاد بها بعض أولئك الهاربون إلى وطنهم، ولا أقسى من عاهة مستديمة استوطنت أجساد كالحة، وحولت أصحابها إلى بقايا روح مهزومة، لا تعرف للأمل طريق، حينها وجد أولئك النسوة القابعات في خانة الانتظار، أنفسهن في وضع بائس لا يطاق، وترددت همساتهن بنبرات حزينة: «ليته لم يعد»!!.
لم تعد تجدي توسلات «ارجع لحولك»، ولا أماني «وعد اللقاء حان، اليمن تنتظركم يا حبايب بالأحضان»، فقد حل محلهما: «باعدوا من طريقنا»؛ و«مهلنيش بين الهنا والافراح»؛ ويحسب لـ «العبسيان» أيوب طارش، ومحمد عبد الولي، براعة حفر أوجاع الاغتراب في تراثنا الفني والأدبي، وتطبيب ذات الجرح النازف بالكثير من الابداع، وإن كان الأول غني عن التعريف، فإن الأخير ذو السيرة المُوجعة معني بالتعريف، فهو ابنٌ لأحد الأحرار، من أم حبشية، حين قرر العودة إلى الوطن، سُجن في «الشمال»، ومات مقتولاً في «الجنوب»، وعمره لا يتجاوز الـ «34» ربيعاً.
مثلَّ الأديب «عبدالولي»، صاحب: «يموتون غرباء، صنعاء مدينة مفتوحة، الأرض يا سلمى، شيء اسمه الحنين، عمنا صالح»، نقطة أولى وفارقة في تصوير مألات الغربة، وقساوة الاغتراب، استحضر بروائعه المُغلفة بالحنين، وقائع قاسية لأحـوال اليمنيين في المهجر، وتفنن في تصوير غشـم السلطة الاماميـة وعدائها للمجتمـع، كما نقل بدقة طبائع الصراع الاجتماعي والسياسي الدائر، وجسد تـوق الشعب اليمني إلى كسر سجن الطغـاة، وبنـاء عـالم أفضل.
يقول بطل روايته «صنعاء مدينة مفتوحة»: «إننا لا نستطيع عمل شيء لأنفسنا.. ولا أرضنا.. ولا حتى لهؤلاء العساكر.. إذا لم نخلق من جديد.. نخلق كل شيء.. الناس.. الأرض.. الوادي.. حتى أنفسنا، أننا لا نستطيع أن نعيش مع الحمير في حظيرة واحدة، لا أن نعامل معاملة الحمير، يجب أن نجد لأنفسنا مفهوما.. وأن نعرف حقيقتنا».
لم يرد «عبدالولي» من القراء أن يتعاطفوا مع أبطاله، الذين تتقاطـع أنفاسهم وأرواحهـم مع واقعهم الكئيب, سواء في «الداخل» أو في «الخارج»، بل وتـدخل غالباً في تناقضات رهيبـة للخلاص منه، إنما أراد من القـراء المشاركة في الحـدث، وأن يتحولوا إلى أحرار عمليين، بما يشبه الدعوة إلى الثـورة، وهو ما كـان، وسوف يكـون.