منذ أعوام، تستعجل المملكة العربية السعودية الخروج من الملف اليمني ويصاحب استعجالها تراجع التدخل الإماراتي ونماء الدور العماني والقطري في اليمن. وهذا سلوك سياسي مفهوم جدا إذا أخذنا بالحسبان الرؤية السعودية الجديدة في جانبها الاقتصادي والتنموي فقط.
لكن الاستجابة الكبيرة لطلبات الحوثي بالاستمرار في الضغط على الحكومة اليمنية لتقديم تنازلات سيادية إلى الحد زوالها يجعل من الخروج انزلاقا لا يقل خطورة وكلفة عن الانزلاق في الدخول. واذا ما أخذنا بعين الاعتبار مجموعة متغيرات طرأت على الملف اليمني فان التفاعل السعودي قد يأتي بنتائج عكسية ترجح امرين.
أولا تفجير الوضع في جنوب البحر الأحمر وتحويل البحر إلى ميدان معركة اكبر الى جانب البر. وثانيا دخول فاعلين جدد في الشأن اليمني ينقل المشكلة من مستوى محلي بإشراف إقليمي إلى مستوى دولي اكثر خطورة.
قبل توضيح هذا الافتراض علي اولاً الاشارة إلى ان الزاوية التي سأنطلق منها في هذه الفقرة ليست من محددات الامن القومي السعودي. إذا لا طاقة لي في تناول هذا الأمر وبلا شك انه شأن سعودي يفلح في تناوله اي مختص سعودي. لكن انطلق من التفكير في الكلفة الكلية للخضوع لابتزازات الحوثي على حساب الحكومة اليمنية أولا، ومن تداعيات خروج الملف اليمن من اطار إقليمي على سلامة وأمن اليمن ومستقبل العملية السياسية وعلى الواقع الإنساني ثانياً.
تنبغي الإشارة إلى ان الصراع في اليمن يمثل بؤرة توتر ترتبط عضوياً، مع تقادم الوقت، ببؤر توتر أخرى على الخارطة السياسية الدولية.
وهذا يعد اخطر ما في الصراع اليمني؛ أي قابلية اشتباكه السريع وقليل الكلفة في قضايا إقليمية ودولية.
لا نبالغ إذا قلنا انه لا تنفصل المشكلة اليمنية عن الحرب في أوكرانيا بدرجة ما. لكنها الان غير منفصلة بداهة عن الحرب على غزة وتبادل اللكمات بين إسرائيل وإيران.
فاذا اعتمدنا فقط صورة الحرب في اليمن على انها انعكاس صراع مذهبي (سني-شيعي) بين قوتين إقليمين هما السعودية وايران. فإننا نفهم كيف ان يتموضع الحوثي في محور القوى الطائفية التابعة لايران في المنطقة.
ثم بعد سنوات من الحرب التي لم تبت في مستقبل الهوية السياسية للسلطة في اليمن ، نجد الحوثي يدخل على خط القضية الفلسطينية ويستجلب كيانات إقليمية جديدة.
في هذه الأخيرة جلب الحوثي إسرائيل إلى مائدة التدخل المسلح في اليمن.
وعلى ضوء اشتباك المشكلة اليمنية بالحرب في أوكرانيا تدخل روسيا على الخط لتحقيق توازن في دعم أمريكا بسلاح نوعي لأوكرانيا.
طالعنا قبل يومين خبر جهود أمريكية سعودية لثني روسيا عن تزويد الحوثيين بسلاح فضلا عن اخبار تتحدث عن دور الخبرات الروسية في استهداف الحوثيين للسفن في البحرين الأحمر والعربي.
اياً كانت مصداقية هذه الاخبار يجب عدم تغافل ان الاستهداف الحوثي انتقائي ادخر مصالح مباشرة لكل من روسيا والصين.
كانت السعودية بحكم ما يربطها من مصالح في ادارة سوق النفط ومصالح اخرى ضامناً لضبط التدخل الروسي في اليمن عند مستوى مجلس الامن وبما يتسق والرؤية السعودية ومصلحة الحكومة اليمنية.
لكن صيغة خارطة الطريق التي ترسمها السعودية والتي تعادل انسحابا من الملف اليمني تعطي رسائل عن وتوحي بـ فراغ يمكن لروسيا ان تملأه وفق مصالحها والصراع الذي يربطها بالقوى الغربية. بالتالي ستتدخل نكاية في الغرب لتزود الحوثي بسلاح نوعي وخبرات وتضعه في رقعة شطرنج الصراع الدولي الذي لن تتخلف عنه الصين.
على الجانب الاخر، كان بناء الحكومة الشرعية وتمكينها من أداء دور طرف اصيل في الصراع اليمني قد كبح دول إقليمية عن التدخل في الملف اليمني.
إلا ان دعوة إسرائيل للتدخل في اليمن يعني فتح الباب لأطراف إقليمية أخرى لحماية مصالحها او بمليء الفراغ الحاصل مثل تركيا ومصر والهند.
لنفترض ان السعودية تمكنت من الخروج عبر خارطة طريق قوضت الحكومة اليمنية إلى مجرد طرف يوقع على شهادة وفاته. فان انغماس اليمن، عبر الحوثي، في صراعات اقليمية ودولية جديدة يعني قذف اليمن في أتون حروب يقودها فاعلون اما لا يحفلون بالشأن الانساني ولا يخشون اي عقاب دولي كما رأينا في القصف المدمر الإسرائيلي لميناء الحديدة، او لا يرون في اليمن إلا رمح جديد يمكن غرسه في خاصرة المصالح الامريكية والأوروبية على حساب السلم في اليمن.
ما لا يمكن تجاهله إلى الان انه كلما انغمس الحوثي في بؤرة صراع جديدة كلما تعاضمت قدرته القتالية وتوسع مسرح القتال وان السيطرة العملياتية لدول التحالف في البحر الأحمر والعربي باتت في موضع تساؤل جاد منذ بداية العام 2022.
تقويض الشرعية مقابل خروج السعودية لا يعني انتهاء التوتر في اليمن بل نقل الصراع إلى متدخلين دوليين وعسكرة المنطقة وجعل جنوب البحر الأحمر ميدان رماية للقوى الدولية.