لم يكن هذا الرحيل المجيد للشهيد القائد إسماعيل هنية (١٩٦٢-٢٠٢٤)، رحمة الله عليه، مفاجئا لأحد ممن يعي طبيعة ما كان للشهيد القائد أبي العبد من دور ومكانة على رأس حركة مجاهدة، رسمت لقادتها وأفرادها، منذ لحظة التأسيس النضالي الفدائي لها، هدفاً واضحاً ووحيداً، جعلته هدفها الأول والأخير، وهو “إما النصر وإما الشهادة”.
لم يكن الشهيد إسماعيل هنية يجهل هذا المآل والمصير المنتظر، الذي عبره كل من سبقوه من قادة التأسيس الأوائل الذين عايشهم، وكان إلى جنبهم في كل المحطات والمنعطفات التي مرت بها الحركة منذ لحظتها الأولى، وفي ما واجهوه من تحديات كبيرة وعلى كل المستويات، وفي مقدمة ذلك استهداف القيادات كالشهيد المؤسس الشيخ أحمد ياسين، وخلفه في قيادة الحركة الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، وإبراهيم المقادمة وإسماعيل أبو شنب ونزار ريان، وقبلهم الشهيد القائد يحيي عياش، وغيرهم القادة الكبار.
قبِلَ هنية قيادة الحركة عقب استشهاد الدكتور الرنتيسي بضربة طيران إسرائيلية غادرة في ٢٠٠٤م، وهو يدرك أنه مشروع شهيد من أول لحظة، وقد قالها ذات يوم.. “إننا انضممنا لهذه الحركة ليس لنصير وزراء وإنما شهداء”، ومثل هذا الوضوح في الرؤية لدى الشهيد القائد إسماعيل هنية للمصير الذي ينتظره، ككل قيادات الحركة من قبله، هو من أهم دوافع قبوله لهذه المهمة الاستشهادية العظيمة على رأس الحركة، التي تشكل العدو الأخطر لإسرائيل والمنظومة الغربية التي تقف خلفها.
إن قصة حماس، وقصة استشهاد قادتها على مدى العقدين الماضيين، وقصة جهاد وكفاح هذه الحركة وثبات رؤيتها ومسارها، يضعنا أمام حالة فريدة من الكفاح والنضال والصمود والاستبسال، ما أعاد ويعيد الاعتبار لكثير من التسميات والمفردات التي ماتت وشبعت موتاً، أو تلك التي لم يعد لها وجود في قواميس هذه اللحظة العربية المُهينة والمُخزية.
ولهذا، فإن رحيل إسماعيل هنية واستشهاده بهذه الطريقة المجيدة لا شك أنه رحيل طبيعي ومستحق لقائد، عاش مالئ الدنيا وشاغل المحتلين والغزاة وكل من يقف خلفهم.. إن عظمة هذه الاستشهاد هي من عظمة القضية التي ضحى من أجلها الشهيد إسماعيل هنية وكل رفاق دربه وقادته، هذه القضية التي بقيت شوكة في حلق العالم المنافق اليوم، العالم الذي أرادت السردية الغربية أن تبقيه رهن تصوراتها وإرادتها.
نعم.. تلك السردية الغربية التي رغم كل ما قدمته من نظريات، وأنتجته من علوم ومعارف، كان من أهم أهدافها كيفية إبقاء الغرب مُهيمنا على كل شيء، وفي مقدمة كل ذلك هيمنة سرديته المركزية في تفسير العالم وظواهره وأحداثه وماضيه وحاضره، تلك السردية التي أسست يوماً لأكاذيب وأساطير ما أنزل الله بها من سلطان، وكان على رأسها أن فلسطين أرض بلا شعب، وأن الفلسطيني هو الذي باع أرضه للمحتل، وأن فلسطين هي أرض الميعاد اليهودي.
ولكن ربما لم يدُر في خلد صناع تلك السردية أن ثمة سردية أخرى، هي سردية الكرامة والحرية والفدى والتضحية، والحق الذي لا يموت، ولا يضل أصحابه طريقهم إليه ما داموا متمسكين بغايتهم في أن يعيشوا حياة حرة وكريمة، وهذه السردية تجسدها اليوم ثلة وكوكبة من أنبل ما أنجبت أرض فلسطين المحتلة، هذه الكوكبة التي ظلت ممسكة بخيط القضية، وبمفتاح العودة كرمز للحق الذي قدمت من أجله قرابين الشهداء، ولم تملّ ولم تكلّ يوماً في سبيل إبقاء جذوة القضية حاضرة في وجه كل خائن وعميل وكل مستعمر.
ومن أجل هذا كله، يأتي استشهاد القائد البطل إسماعيل هنية تتويجاً لهذا المسار العظيم في التضحية والفدى، وتأكيداً على أن الحق الفلسطيني لا يمكن تجاوزه ونسفه بأوهام السلام الزائف والمزيف، وأكاذيب التطبيع، وخرافات ومزاعم الإبراهيمية الجديدة المُتوهمة، التي يُراد من خلالها إهالة التراب على الحق الفلسطيني، والبناء على أنقاض هذا الحق دويلةً يهودية خرافية لا وجود لها إلا في مخيلة العقل الاستعماري الغربي البغيض.
سيسجل التاريخ حتماً، أن قائداً اسمه إسماعيل هنية، عاش في واحد من أكثر مراحل التاريخ الإنساني انحطاطاً، وقدم صورة واحد من أنبل وأعظم القادة العظام، الذين يمسكون بجمر القيم، ويرسمون خطوطاً واضحة ونبيلة وعظيمة لشعوبهم وأمتهم، لا يحفلون بحالة الإسفاف والسقوط والخيانات التي من حولهم، يمضون نحو أهدافهم دون أن يقدموا التنازلات المذلة، ولا يجاملون على حساب قضيتهم وأهدافهم.
فالقادة النادرين- كإسماعيل هنية- هم اليوم من يعيد الاعتبار لكثير من القيم والمعاني، التي لم نعد نجدها إلا ألفاظاً تُقال لا تُترَجم سلوكاً يُمارس.. لقد أعاد إسماعيل هنية- وحركة حماس ككل- الاعتبار لمعنى القيادة، ومعنى الحق والتضحية والفداء والرجولة، وكل هذه الأسماء التي لم يعد لها وجود في عالم الساسة اليوم.
لقد عاش هنية حياة بسيطة متواضعة، كما هي حياة أبناء المخيمات الفلسطينية، لكنها حياة مليئة بالمعاني والقيم العظيمة، حياة لا تعرف المستحيل ولا تعرف الخضوع، حياة كان مدارها ومركزها الكفاح لاستعادة حق الشعب الفلسطيني المستلب، وأن لا طريق لهذا الحق في عالم منافق وكذاب إلا من خلال تقديم صورة ناصعة البياض للمناضل الحقيقي، الملتزم بدينه وعقيدته وثقافته وقيمه.
لقد جاءت حركة حماس بكوكبة من المناضلين الدعاة، الذين كان أمامهم تحدٍّ كبير في تقديم نموذج جاذب وحقيقي، نموذج لا يقع في ما وقعت به كل حركات التحرر السابقة، تلك الحركات التي راحت شرقاً وغرباً في البحث عن نظريات وأفكار للتحرر، بينما أنت لا تحتاج سوى إلى قليل من الإيمان بالقضية التي تناضل من أجلها، وأن تنطلق في معركتك هذه من قيمك ودينك، ومنظومتك الأخلاقية والدينية والفكرية والثقافية، المليئة بالكثير من صور البطولة والتضحية والفداء والصدق والإخلاص ونكران الذات، والتسامي عن حظوظ النفس، وكسر شهواتها ورغباتها غير المشروعة.
لقد كان الشهيد القائد إسماعيل هنية خلاصة كل هذه المسالك التربوية والفكرية والدعوية، حيث منشؤه الصوفي وتربيته الإخوانية وعقيدته الإسلامية الخالصة، لقد حاولت المدرسة الحمساوية ونجحت كثيراً في أن تعيد الاعتبار حتى لفكرة التكامل الدعوي، الذي ينبغي أن يكون بين فصائل العمل الإسلامية قديمها وحديثها، ولقد شكلت شخصية الشهيد القائد إسماعيل هنية نموذجاً واضحاً ومشرّفاً وفذا، لهذا التكامل الخلاق في مسالك العمل التربوي والدعوي والتزكوي والجهادي، بعيدا عن تلك النماذج الاختزالية المشوهة والمنحرفة، والتي أصابت الأمة بمقتل في فكرها وعقيدتها يميناً ويساراً.
إن وضوح الأهداف من وضوح القضية وصفاء العقيدة وسلامة المنهج والنهج، وهذا كله ما تحقق في كوكبة شهداء حماس التي لم تتورط يوماً في دماء غير دماء الأعداء المحتَلين، حماس التي حافظت على مسار قضيتها ونظافة يدها من التلوث بدماء الأبرياء، رغم بعض ما قد يؤخذ عليها في المسار السياسي، ولكنها تبقى الأكثر نقاءً ووضوحاً في مسارها وأهدافها.
وختاماً، لا ريب ولا شك أنه لا يمكن اختزال صورة الشهيد القائد البطل إسماعيل هنية، تلك الصورة ناصعة البياض والبهاء والعظمة، ببضع كلمات ومقال صغير كهذا، لما بات يمثله الشهيد القائد أبو العبد اليوم من رمزية ملهمة لهذه الأمة، التي تتقاذفها أمواج الذل والهوان والخضوع والاستكانة والضياع.. هذه الصورة أكبر من أن يتم اختزالها هنا!
وإننا اليوم أمام منعطف ومرحلة مفصلية في تاريخ هذه الأمة، وهذه المرحلة ترسم ملامحها دماء القادة الشهداء الأبطال كهنية ورفاقه، وكذلك دماء كل شهدائنا الأبطال في غزة، وفي كل بقعة يُقاتل فيها الإنسان من أجل وطنه وحقه وحريته وكرامته.