كتابات خاصة

العلمانية والإسلام (1)

عبدالله القيسي

يعاني الخطاب العلماني في الوطن العربي من مشكلات تشابه إلى حد ما مشكلات الخطاب الديني، وربما يعود ذلك إلى أن لب التفكير واحد عند كل منهما وإن اختلفت القشرة العليا. يعاني الخطاب العلماني في الوطن العربي من مشكلات تشابه إلى حد ما مشكلات الخطاب الديني، وربما يعود ذلك إلى أن لب التفكير واحد عند كل منهما وإن اختلفت القشرة العليا، إذ سرعان ما يتحول ذلك الخطاب في بلادنا العربية إلى مظلة للصراع أكثر من كونه خطابا يرسخ حقوق الإنسان ويدعو للتعايش، وبهذا نزيد اللهب اشتعالا ونزيد حالنا تخلفا وتراجعا.
وأحد الصراعات التي بدت بشكل أبرز مؤخرا هي صراع العلمانية والإسلام، إذ أخذ الصراع فيها طابع التمترس لا طابع البحث عن سبل التعايش، وأنا هنا لا أساوي تماما بين حجم المشكلة عند التيارين فربما كانت مشكلته عند التيار الإسلامي أكبر باعتبار اتساع نطاقه الزماني والمكاني بين الناس، وباعتبار أنه لا زال يملك سلطة ما، وربما استخدم تلك السلطة ضد خصومه فأفقدهم حق الحياة، تلك السلطة التي تتمثل في فتاوى التكفير والتحريض ضد الخصوم المخالفين له فكرا، والتي يمكن أن تدفع بأفراد أو جماعات متطرفة لارتكاب جرائمها استنادا لذلك الخطاب المتشدد.
في المقابل برزت مشكلة الخطاب العلماني في السنوات الأخيرة–وأقصد به خطاب التيارات غير الإسلامية- حين لم يقبلوا بالإسلامي بكل ألوانه في السلطة عبر ملعب الديمقراطية، بادعاءات لا تستحق أن يهدم من أجلها مبدأ الديمقراطية الذي لازال في طور النشأة، ذلك المبدأ الذي يأتي في رأس قائمة أولوياتنا للسعي لأخذ حقوقنا السياسية، كون هذه المجتمعات عانت من الاستبداد السياسي طوال قرون أكثر من معاناتها من أي شيء آخر، ذلك الاستبداد الذي وظف لصالحه الخطاب الديني في أوقات كثيرة، وتأملوا في تاريخنا ستجدوا أن يد السياسة كانت وراء فتاوى كثيرة تضطهد الآخر المخالف وتلغي حريته.
لقد كانت خطيئة كبرى لهذا التيار حين لم يؤمن بالديمقراطية إذا كانت ستوصل الإسلاميين للحكم،  وكانت استعانته بالعسكر والقبول بالانقلابات العسكرية والتواطؤ مع دول إقليمية ودولية لتحقيق ذلك طعنة في خاصرة أحلامنا، ووصلت ذروة خطيئته حين قبل بانتهاك حقوق الإنسان لمخالفيه الإسلاميين، فتارة تشفى وتارة أيد وتارة سكت وفي كل ذلك كارثة، وأبرز مثال لذلك تأييده للانقلاب العسكري في مصر وفي تركيا وما تبعه من انتهاك لحقوق الإنسان.
كان ذلك الخطاب الدوغمائي من الإسلاميين والعلمايين قد أوسع الهوة في المجتمع وصنع شرخا كبيرا لست أدري كم من الزمن نحتاج لتجاوزه! إلا أن ذلك لم يكن سمة كل الخطاب الإسلامي ولا سمة كل الخطاب العلماني فقد بقي في كلا الفريقين خطاب عقلاني يحافظ على قيم حقوق الإنسان ويستوعب الآخر المختلف معه مهما كان فكره وتفكيره ما دام لا يمثل اعتداء على حقوق الإنسان الأساسية. خطاب يفرح بالتقاء نقاط الاتفاق والالتقاء ويسعى للتزاوج والاحتواء لنقاط الاختلاف بدل المصادمة والمفاصلة، متنازلا عن القضايا البسيطة المختلف فيها في سبيل الحفاظ على الحقوق الأساسية لكل منها (حق الحياة وحق حرية الاختيار وحق التفكير والتعبير وحق المواطنة المتساوية)، ورغم قلة هذا النوع من الخطاب في الفريقين إلا أنه بدأ يتنامى خاصة بعد أن جعلت الأحداث الأخيرة في الوطن العربي كل شيء مكشوفا على الطاولة، فالزائف المتخفي تحت الشعارات ظهر للسطح والمدلس من وراء حجاب صار معروفا ولم ينفعه لحن القول.
ربما أجد بعض العذر في حالة التخوف والقلق عند كل فريق من أولئك أو عند جمهور لا بأس به من الطرفين، عذر سببه نقص المعرفة وأحكام مسبقة متسرعة، فالإسلامي حفظ في ذهنه نماذج سيئة لعلمانيات ديكتاتورية ظن أن العلمانية ذاتها تحارب الدين، ففي ذهنه نموذج ستالين وما حصل لمسلمي الاتحاد السوفيتي من إهدار للحقوق والحريات بسبب عداء الدولة للدين، وفي ذهنه نموذج أتاتورك الذي ألغى المظاهر الدينية في دولة كانوا يرون أن حاملة لواء المسلمين جميعا، وفي ذهنه على المستوى العربي علمانية بورقيبه التي حاولت إلغاء بعض مظاهر الدين في تونس. أما العلماني العربي فيحفظ في ذهنه نماذج لدول أو لجماعات تقول أنها إسلامية -كطالبان- تمارس أيضا قمع الحقوق والحريات وتهدرها، فيخاف من كل ما هو إسلامي. وربما غذى ذلك الخوف ما يجده من تنامي الهوية الطائفية والمذهبية وتصاعد تطرف جماعات العنف الدينية، وللفريقين بعض الحق في ذلك القلق وليس لهم أن يجعلوه صراعا يزيد في قمع الحقوق والحريات لو كان يعقلون.
فإلى أولئك أكتب هذه السلسلة من المقالات حول العلمانية والإسلام لنتجه مباشرة إلى نقاط الإشكال الحقيقية بينهما لفض اشتباكها، فالأمر كما وجدته من خلال رحلة بحث وقراءة في العلمانية وفي الإسلام لا يستحق أن نتمترس ونعادي ونحارب، لأنه لا يوجد ما يستحق لذلك فالعلمانية في أهم ركائزها لا تتعارض مع مقاصد الإسلام، بل إن مقاصد الإسلام تستوعب ذلك وتدعو إليه، وهذا ما سأحاول إيضاحه في هذه المقالات التي ستعرض بشكل مبسط تعريف العلمانية وأنواعها وركائزها وسياقها وبعض نماذجها التي تكيفت مع الدين، ثم أنتقل لعرض تصور الإسلام العام لشئون الحياة مركزا على ما يتعلق بهذا القضية، وأبحث في بداية نشوء مصطلح “الدولة الإسلامية” وما هي السلطة الدينية التي تمثلها المذاهب الإسلامية، وما هي الأفكار التي بحاجة لمراجعة في تراثنا والتي تتماس مع الحقوق والحريات كمرتكز أساسي يقف عليه الجميع، وما هي النماذج العلمانية التي خرجت من جلباب الخطاب الإسلامي  فقدمت خطابا عقلانيا في ذلك، ثم أختم بالخطوات العملية التي تحقق العلمانية بالمعنى الذي سأحدده والتي تحقق التعايش بين الجميع.
لا أدعي أن مقالين أو ثلاثة أو أربعة ستكفي لبسط كل تلك الأفكار (ربما تتحول لكتاب في وقت لاحق) ولكن يكفي القارئ أن يقف على لب كل منهما، وعلى أهم نقاط الاشتباك بين الخطابين العلماني والإسلامي، ليعرف أن بالإمكان أن نكيف علمانية تناسب مجتمعاتنا العربية والإسلامية. علمانية لا أظن الإسلامي سيرفضها إلا إن كانت حساسيته مع الاسم ذاته ناسيا روح الإسلام ومقصده في التركيز على لب الأشياء لا قشورها، وربما نجد حلا للتسمية إن اتفقنا على الجوهر، ولا أظن كذلك غير الإسلامي سيرفضها إلا إن فكر بنفس طريقة الإسلامي السلفية، وترك روح ومقصد العلمانية.
من الطبيعي أن يحدث بين البشر تلاقح في الأفكار فيما يخدم الإنسانية، فأي فكرة وصل لها الآخر ونرى احتياجا لها -كونها تجربة إنسانية جاءت بالتراكم- هي الحكمة التي نحن أحق بها أنا وجدناها. فالحكمة ثمرة إعمال العقل، والعقل هو المكمل للوحي كي يعيش الإنسان بسعادة في هذه الحياة، فالحياة ممتدة والأحداث لا متناهية ونص الوحي متناه، فكان العقل هو المستوعب لتفاصيل تلك الأحداث بعد استلهامه من قيم الوحي الكبرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى