كتابات خاصة

قصة نازحة

فكرية شحرة

لم يكن مجرد جدران ضمتني أنا وأولادي وسنوات عمري وكفاح زوجي وصبري على غربته داخل وطنه, لقد كان سترنا الذي هتك بالنزوح وأماننا الذي فقد بالحرب. لقد تركت بيتي خلفي.
لم يكن مجرد جدران ضمتني أنا وأولادي وسنوات عمري وكفاح زوجي وصبري على غربته داخل وطنه، لقد كان سترنا الذي هتك بالنزوح وأماننا الذي فقد بالحرب, وشبعنا الذي ذهب بالجوع والحاجة.
في طريقنا إلى مدينة إب، بكينا كل شيء في مدينة تعز, شوارعها الموحشة بعد القصف وحواريها القافرة بعد كل حزن, وهواؤها الذي أفسدته الأنفاس المتكالبة على النهب والسلب.
بكيت على بيتي المتواضع وتلك المشاقر في الحوش التي سيسقيها القصف وحيدة بعد أن غرستها بيدي لأقطفها في أي فرح قادم فأحرقتها الحرب.
ما كنت لأترك بيتي لو علمت أن النزوح موت آخر..
لكن الهلع على أرواحنا جعلنا نترك كل شيء خلفنا ونهرب، بما لا يعوض أو يسترد.
هكذا كنت أظن .. لكننا فقدنا بالنزوح أشياء في غلاوة الروح وقيمتها, فقدنا كرامتنا ونحن نتعرض للإهانة والتهميش في بلد يظن أن كل من مسته الحاجة إما شحات ومتسول أو سارق نصاب.
زوجي الذي عاد ليضرب في أرض الله كي يؤمن لنا القوت وإيجار دكان ضم أرواحنا والبرد والجوع، كان قد فصلته عنا مسافات طلب الرزق, لذا اضطررت  للبحث عن أي عمل يوفر أبسط متطلبات الحياة لخمسة أطفال مساعدة لزوجي الذي أخشى أن أفقد وجوده لتكالب الحياة عليه.
كنت أحيانا أطرق الأبواب التي أتوسم في أهلها اليسر، فتصدني نظرات تستنكر على سيدة مهندمة أن تدعي الحاجة ومظهرها لا يدل عليها, فهل كان ينبغي أن أمزق عني الثياب كي يعلم الناس أن أحشائي تتمزق جوعاً؟!
كنت أقول لسيدات البيوت: هل هناك عمل أقوم به لقاء أي أجر؟
فتردني العبارات بالشكر وطلب الانصراف..
إن الخير في الناس يقل ومن تعاطف معي أجده أقرب للحاجة مثلي, قلوب الفقراء أشد عطفاً على من دونهم, ربما لأنه لا يشعر بمعاناتك إلا من لسعه الجوع يوماً مثلك.
حياة النزوح موت بطيء لمن لا يملك رصيد في البنك أو وظيفة يحول إليه راتبها كل شهر, هي شقاء من أنفاس الحرب وعذاب يجعلك تتمنى لو كفنتك جدران بيتك قبل أن تفقد في طريق النزوح كل القيم والأمل والثقة بالآخرين..
وأين نذهب إذا لم نتراحم بيننا ونعرف أن الأيام دول, وهل دام لي بيتي ومشاقري وهل كنت أدري أنه سيأتي يوم يكون فيه هذا حالي؟
وأين تذهب امرأة مثلي إذا مسها الضرر في مجتمع يتناسى أننا في حرب؟
هل أقبل على نفسي السير في طريق شائك أو أغلق دكاني على أطفالي وأموت جوعاً؟!
لقد كنا مثلكم يا أهل البيوت الآمنة، وما كنا ندري أن الحال يحول بنا هكذا..
وإن بقينا على قيد الحياة سننتصر ونعود لديارنا آمنين إن شاء الله.
تراحموا فيما بينكم، فبالرحمة قد يحدث النصر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى