ثمة توازن حذر بين مكتسبات الدول الثلاث: إيران، السعودية، الإمارات. من غير المتوقع أن يحدث تغيير عاجل، ذو دلالة، على الخارطة الثلاثية. دول التفكك لا تنجو بضربة حظ، والحروب الطويلة التي تذهب إلى هدنة، بعد إعياء، إن عادت فإنها تأخذ شكلاً سياسياً لا عسكرياً، أي تعود كمناورة. على نحو ما حدث في ألمانيا بعد الحرب الثانية، احتفظت أربع دول بمكتسباتها من الأراضي الألمانية، ألمانيا الـــ”روسية، أميركية، فرنسية، بريطانية”. التوازنات الحذرة استمرت حتى تغير شكل النظام العالمي برمّته، أي ما يزيد عن أربعين عاماً. قبل أكثر من عشرة أعوام [بعد 20 عاماً من الوحدة الألمانية] كان المرشدون السياحيون يقولون لنا – على حافلات التجوال في برلين: نغادر الآن برلين الروسية وسندخل برلين الأميركية.
أوراق اليمن صارت، كلها، في الخارج. نتذكر أن مزحة ألقيت علينا قبل عامين، آنذاك ذهب رجال ونساء إلى الرياض ليتداولوا في شأن بلادههم. الصور التي التقطت لهم، وهم على طاولاتهم يدونون ملاحظاتهم الجبارة، كانت باعثة على الطمأنينة. ذهبوا إلى النوم، كما يفعل كل مُغترب، وفي خيالهم أشياء عبقرية سيكتبونها غداً. أفاقوا على رئيس جديد، ولم يتمكنوا حتى الآن من معاينة رئيسهم القديم. الرئيس الجديد “قرار” اتخذه ضباط من الدولتين، ووافق عليه ساسة البلدين. كرجل يحمل درجة الدكتوراه، ويتمتع بذكاء وخبرة، فهو يعرف وظيفته الرئاسية: أن يحرس مكتسبات الدول الثلاث، وأن يعترف بالتشظي. لا تريد الدول الثلاث حرباً هجينة مجدّداً. ثمّة مجال كاف للمناورات والشجار، وحتى للتلويح بالحرب. ولكن لا مكان للحرب. حددت كل دولة مستوى “غير المقبول” في الجزء الخاص بها. أميركا، اللاعب الوحيد من خارج الثلاثي، قبلت اللعبة، بل أرادتها. يمثل النظام الفاشي في صنعاء ورقة رابحة للولايات المتحدة، من خلالها تستطيع أن تقود السعودية في أي اتجاه تريده. ويمثل الاحتلال الإماراتي للأراضي الجنوبية مصلحة إسرائيلية- وبالضرورة أميركية- خصوصاً فيما يتعلق بالنفوذ على البحار والجزر والمياه الدولية.
الصواريخ الإيرانية في صنعاء تمكن أميركا من فرض نفوذها على السياسة السعودية. تمثّل الصواريخ الحوثية مصلحة استراتيجية للإدارة الأميركية. في تقرير مثير كتبه دافيد روزين بيرغ على فورن بوليسي [هو أيضاً المحرر الاقتصادي لصحيفة هآرتس] حول “لماذا لم تقطع الدول العربية علاقتها بإسرائيل” قال إن السعودية تريد، بكل الوسائل، دعماً أميركياً في سبيل الحصول على بنية تحتية نووية، ومن أجل حمايتها بشكل عام من إيران وأذرعها. تستغل أميركا هذه الحاجة السعودية وتبقي على التحديات كما هي، وفي سبيل ذلك أيضاً تأخذها إلى التطبيع مع إسرائيل. ضغط “العالم الشيعي” على السعودية ألقاها في عش النمر. لا بد لذلك الضغط أن يستمر كي لا تأخذ السعودية وضعاً مستقلاً على المسرح الدولي الآخذ في التغيير. على وجه الخصوص مع اندماج إيران في المحور الروسي- الصيني أكثر من أي وقت مضى.
اليمن بلد واقع تحت الاحتلال، أوراقه كلها في الخارج. ستعيش أجيال عديدة تحت هذا المصير. أقصى ما يمكن أن يُنجز راهناً، بجهد داخلي أو توافقات خارجية، هو “تحسين حياة اليمنيين”. فتح طرقات، تسهيل حركة الموانئ، فتح مطارات، بعثات طبية وإغاثية، ربما محاولة لتوحيد العملة، وأمور أخرى ذات طبيعة لوجيستية وليس سياسية. تماماً كما يُقال حين يجري الحديث حول فلسطين. إن تحسين حياة اليمنيين لا يعني، بالمرّة، تمكينهم من دولتهم الموحدة، أو من سيادتهم على بلادهم.
على الواجهة هناك سياسيون يقومون بأدوار بيروقراطية تراعي مصالح المستعمرين وتوافقاتهم. إن كانت إيران قد قبلت أن تتخلى عن مهاجمة مأرب، ضمن مساعيها لبناء بعض الجسور مع الخليج، فهي لن تقبل بتغيير قواعد الاشتباك كأن تحاصر صنعاء وتحشر في الزاوية. ستعود السعودية إلى احترام قواعد الاشتباك كما تفعل في الجنوب مع خصمها الآخر “الإمارات”. تضع الإمارات فيتو على تصدير النفط من مستعمراتها الجنوبية، ولا تملك السعودية سوى احترام ذلك الفيتو، لا بد من توازن ما بين مصالح المستعمرين الثلاثة. أي: تهدئة الملف اليمني وتسكينه حتى يمكن للأخوات الثلاث الانصراف إلى أماكن أخرى ومسائل بعيدة.
مناورة البنك المركزي، وما استتبعته من تهديدات حوث.ية، ستفضي إلى تسوية ما، أي إلى العودة إلى قواعد الاشتباك المتفق عليها بين الدول الثلاث. ومن غير المرجّح أن تشهد المُستعمرات اليمنية تغييراً حقيقياً في الأعوام القادمة. لن يكون ذلك ممكناً بمعزل عن تغييرات كبرى تضرب النظام العالمي وتعيد رسوم خارطة النفوذ والقوة والأقطاب.
**من صفحة الكاتب على منصة أكس