يروى عن بيسمارك، الزعيم الألماني التاريخي، أنه قال: “إذا لم نهتمّ بأمر الفقراء، فسوف يهتمون هم بالسياسة”. حين ينصرف الفقراء إلى السياسة، معتقدين أنها مصدر البلاء كله، فإن قواعد اللعبة تتغير. أيًّا كان الطريق الذي سيسلكونه، الشارع أو صناديق الاقتراع، فغالبًا ما تكون النتائج وخيمة. فالحياة السياسية تمضي بثبات، أو لنقل الديمقراطية، ما دام قد قرر الفقراء تجاهلها، كما لاحظت حنة آرندت في عملها الشهير “مصادر الشمولية”.
لإبقاء اللعبة بعيدًا عن التخريب فإن الديمقراطية الأميركية – على سبيل المثال – قد هُندست على نحو يجعلها تقدم الخيارات السلمية، ولا تقدمها في الآن نفسه. تشير استطلاعات الرأي الأميركية إلى عزوف نصف الناخبين عن الرجلَين: ترامب وبايدن. تبدو الأمة الأميركية واقفة على حافة الهاوية، فهي متاح لها أن تختار بين رجل أدركه أرذل العمر، وبين آخر ذي سجل إجرامي فاضح. لا توفر النسخة الأميركية من الديمقراطية “الموجهة” خيارات بديلة لنصف أفراد الشعب الذين باتوا يُشار إليهم بمبغضي الرجلَين. إنها لعبة الأقلية باسم الأكثرية، كما جادل روجيه غارودي في تسعينيات القرن الماضي.
كان غارودي قد توصّل عبر عملية حسابية إلى أن بيل كلينتون حكم أميركا، وبالتالي العالم، بأصوات 15 في المائة من شعبه. سبق لتشومسكي أن لاحظ تطابقًا كاملًا بين الرؤيتين: الليبرالية والشيوعية لدور “الدهماء” في الحياة السياسية، بإبعادهم عنها بسبب افتقارهم للجدارة، ولأنهم مخربو لعب.
أحال تشومسكي إلى منظّرين شيوعيين ورأسماليين قالوا الشيء نفسه بطريقتين مختلفتين. وفي فندق الفيرمونت، سان فرانسيسكو، اجتمع مئات الصناعيين ورجال الثروة سنة 1995م، وقرروا المضي في ابتكار المزيد من “المُلهيات” التي من شأنها إبقاء المحرومين والأقل دخلًا بعيدًا عن الاهتمام باللعبة السياسية.
أطلق زبيغنيو بريجينسكي، مستشار الأمن القومي لدى الرئيس كارتر، على الفكرة اسمًا مثيرًا: Titty-Tainment، وهو نحت من كلمتين Titty وتعني المصّاصة، و Entertainment وتعني اللهو. تبدو الديمقراطية الليبرالية، حين تنظر إليها من الخارج، عصية على الانهيار، ومنجاة من الفوضى. السياق التاريخي للديمقراطية يوفر الكثير من النماذج التي تشكك في هذا الزعم.
ناقش أفلاطون في “الجمهورية” احتمالية أن تنشأ أخطر النماذج الدكتاتورية من رحم التجارب الديمقراطية الأكثر رخاوة. كانت حكومة فايمر الألمانية، التي نشأت بعد الحرب العالمية الأولى، قائمة على نظام ديمقراطي اتّسع لما يزيد عن سبعين حزبًا.
لم تعرف ألمانيا وضعًا ديمقراطيًا مثل ذلك من قبل. حين تتسع الحياة السياسية على هذا النحو، فإنها تخلق، في العادة، نظامًا عاجزًا وظيفيًا (Dysfunctional System). وكان ملك إيطاليا يقف عاجزًا، وهو يرى الحياة السياسية في بلاده قد تشظّت إلى عشرات الأحزاب المتناحرة.
أفضى النموذجان الديمقراطيان: الألماني والإيطالي – في النصف الأول من القرن الماضي – إلى النازية والفاشية. نَعِمَ البلدان بمقدار هائل من الديمقراطية الرخوة، وهذا كان كافيًا لشلّ الحياة العامة برمّتها. وتلك بيئة مثالية لنشوء الظواهر الشعبوية والفاشوية. أعاد الألمان بناء نموذجهم الديمقراطي بعد الحرب العالميّة الثانية، وكذلك فعل الإيطاليون. إلى فضاء السياسة توالى بروز الأحزاب الشعبوية المتشظية، حتى وصلنا إلى اللحظة الراهنة، وهي لحظة عصيبة على الديمقراطية الغربية.
بدلًا من هجاء الأحزاب الشعبوية، يقترح المفكر السياسي الأميركي ميرسهايمير، على الغرب الاعتراف بحقيقة أساسية، وهي أن الظواهر الشعبوية تلك هي تعبير عن عجز بنيوي في الديمقراطية الليبرالية، ولم تنشأ من تلقاء نفسها.
باتت ست دول أوروبية تحت حكم اليمين المتطرف: إيطاليا، سلوفاكيا، فنلندا، هنغاريا، كرواتيا، وجمهورية التشيك. دول أخرى يقف فيها اليمين على عتبة الباب: ألمانيا، هولندا، والسويد. تحت سقف البرلمان الأوروبي توزّعت أحزاب اليمين إلى مجموعتين، هما: الهوية والديمقراطية، والإصلاحيون المحافظون.
في العام الماضي، 2023، أجرى ماتيس رووداين، أستاذ العلوم السياسية في جامعة أمستردام، وفريقه مسحًا شمل 31 دولة أوروبية. بحسب البحث، فإن 32% من الناخبين الأوروبيين اختاروا الأحزاب “المعادية للمؤسسة” في انتخابات 2022 في بلدانهم.
لم تكن نسبة المؤيدين للأحزاب الراديكالية “المعادية للمؤسسة السياسية” تتجاوز 12% في تسعينيات القرن الماضي.
تقدم تلك الأحزاب وعدًا بتوفير “الرجل القوي”. ويبدو أن الرجل القوي هو ما بات “الدهماء” يرغبون برؤيته. هو نموذج للخلاص في لا وعي مجتمعات الشمال عن مجيء المخلّص حين تتلاطم الأمواج. فقد قالت دراسة أجرتها جامعة لايبتسيغ، العام الماضي، إن أكثر من نصف الألمان يفضلون رجلًا قويًا يحكم البلد.
في العام 2020 لاحظ عدد كبير من المراسلين الصحفيين، الذين زاروا مهرجانات ترامب الانتخابية، أن ناخبيه كانوا يصرّون على القول إنهم سيأتون بترامب لكي يؤدّبهم جميعهم. في حفلات الغضب الشعبية تلك، عجز الناخبون عن تحديد من هم المقصودون بـ “جميعهم”. في نهاية المطاف، فإن الجماهير التي لطالما وقع على عاتقها الضرر الأكبر من فوضى السياسة أرادت أن تنتقم وحسب. أي أن تخرّب اللعبة، كما توقعت حنة آرندت قبل نصف قرن، وكما خمّن بيسمارك قبل أكثر من قرن.
العقوبة التي أنزلها الشعب بحزب المحافظين في بريطانيا وُصِفت بأنها تاريخية، ولم يحدث أن أدارت الأمة البريطانية ظهرها لحزب حاكم على ذلك النحو منذ قرون.
أراد الشعب أن يضع حدًّا للفوضى، أن يبطش بالجماعة السياسية التي باتت عاجزة عن رؤية ما يجري في البلاد خارج حدود الحزب. لطالما وُصِف حزب المحافظين بالحزب الأكثر نجاحًا في العالم، أما الآن فسيلزمه وقت كثير حتى يتعافى.
في العام 2019 نال حزب العمال هزيمة ثقيلة هي الكبرى في العقود الثمانية الأخيرة. غير أنّه نجح، منذ ذلك الحين، في تغيير واجهته وإقناع ناخبيه بأنه بات شيئًا آخر غير ذلك التنظيم الذي سبق لهم أن بطشوا به. أي أنه وفّر بديلًا شكليًا لناخب ضاق ذرعًا بالفوضى، وهي فرصة لا توفرها الديمقراطية الأميركية لأفرادها حاليًا.
حصل حزب العمال على فوز لم يكن ضمن حساباته منذ التأسيس، وما كان المحافظون ليتخيلوا أن تنزل عليهم السياط بمثل تلك القسوة. في الصراع حول 650 مقعدًا كان حزب العمال “يسار- ليبرالي” بحاجة إلى 326 مقعدًا، غير أن الجماهير منحته ما يزيد على ذلك بكثير.
الغاضبون من الفوضى واصلوا إحداث المزيد من التخريب، أو الإصلاح، داخل المنظومة المعطوبة، فدفعوا بحزب صغير، “الديمقراطيون الليبراليون”، ليحلّ ثالثًا بما يزيد على سبعين مقعدًا، وهو الذي لم يحصل في الانتخابات التي سبقتها إلا على 11 مقعدًا، فأصبح الآن يملك حصة في البرلمان يزيد عدد أعضائها عن نصف ما حصل عليه المحافظون، الحزب الذي لطالما كان الأوفر حظًا في العالم.
دخل “العامّة” إلى الملعب وغيّروا كل شيء. ذلك هو الجزء الذي تخشاه النخب السياسية والاقتصادية في الغرب، أن تصبح الديمقراطية فعلًا جماعيًا واسعًا، وأن توفر خيارات عديدة خارج قواعد الاشتباك.
كل شيء أفضى إلى الفضيحة في بريطانيا. النظام الصحي المتخلف، حيث تقول البيانات؛ إن أكثر من سبعة ملايين ونصف المليون بريطاني ينتظرون منذ أشهر موعدًا لزيارة الطبيب، انخفاض منسوب الاستثمار، العزلة عن أوروبا، السياسة الخارجية، وفي مقدمتها الحرب على غزة، وسؤال الهُوية الإشكالي.
وبالإشارة إلى غزة، فقد ذكّرت صحيفة الغارديان قراءها، في الأيام الأولى للحرب، بالمظاهرات التي خرجت للتنديد بالحرب على العراق. قالت الصحيفة؛ إن الملايين التي خرجت في لندن، 2003، لم تستطع أن توقف الحرب، ومثلها ستعجز الملايين التي خرجت للتنديد بالحرب على غزة.
السلطة السياسية، أوتوقراطية (مستبدة) أو ديمقراطية، ليست منيعة على الدوام. من وقت إلى آخر يجد الدهماء، كما كان يحلو لـ”لينين” أن يقول، منفذًا للدخول إلى الملعب. لماذا يلعب 22 شخصًا، ويجلس مئات الآلاف على المدرجات؟ لماذا لا يحدث العكس، تساءل القذافي يومًا ما في كتابه الأخضر.
لا يحمل حزب العمال حلًا سحريًا، وثمّة من يسخر قائلًا؛ إنه انتُخبَ لمرّة واحدة، إذ سرعان ما سيرى ناخبوه أنه ذهب في الطريق المغلق إياه. رأى أناتول كاليتسكي، كاتب العمود في بروجيكت سنديكيت، فوز حزب العمال من الزاوية نفسها: حلّ العقاب بحزب المحافظين، أما الفائز فلن ينجز شيئًا، ولن يكون شيئًا مختلفًا عن المهزوم. فالمشاكل، التي خلقتها الفوضى الديمقراطية، باتت أكثر تعقيدًا من احتوائها خلال فترة انتخابية واحدة.
أحال كاليتسكي إلى القول المأثور لجوزيبي توماسي دي لامبيدوسا في رواية “الفهد”: “يجب أن يتغير كل شيء حتى يبقى كل شيء على حاله”. وهي وصفة مثالية، بحسب كاليتسكي، للإفلات من الثورات.
قد يذهب حزب العمال إلى إحداث تغييرات كثيرة لا تمس المتن المعقد واللاهب. فليس بمقدوره المساس بالتواطؤ البريطاني- الأميركي في السياسة الخارجية، كما في الموقف من الحربين في غزة وأوكرانيا.
تبدو المسائل الداخلية واسعة التعقيد، خصوصًا بعد أن نُصبت المتاريس بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، ما ضرب الاستثمار الخارجي في مقتل، ودفع آلاف الشركات إلى مغادرة الأراضي البريطانية. اندفاع بريطانيا، منذ الحقبة التاتشرية، إلى خلق سوق متحرر عن “يد الدولة” قضى في نهاية الأمر على التنافسية، وأنشأ اقتصادًا أحاديًا، في حوزة جماعة لا يمكن منافستها داخليًا، ولكنها أيضًا غير جديرة بالمنافسة على الصعيد الدولي.
تلك هي المعضلة الجوهرية في بنية السوق النيوليبرالية، وبالضرورة في نواة الحراسة الليبرالية لتلك السوق.
بالعودة إلى إشارة الغارديان حول عبثية التظاهرات الاحتجاجية، فقد نجحت مجموعة عمل بريطانية أطلقت على نفسها اسم “الصوت المسلم” في توجيه نسبة كبيرة من أصوات المسلمين بعيدًا عن حزب المحافظين، وبعيدًا إلى حد بعيد عن حزب العمال. على موقع “الصوت المسلم” ثمة جردة حسابية تقول؛ إن 5 في المائة فقط من نواب حزب العمال نادوا بإيقاف الحرب على غزة، وبناء عليه فإن خيار “الصوت المسلم” لا بد أن يكون خارج الحزبين.
يعيش في بريطانيا 4 ملايين مسلم، يشكلون حوالي 6 في المائة من السكان. في الاستطلاع الذي أجرته مؤسسة Savanta مطلع يونيو/حزيران الماضي قال 86% من الناخبين المسلمين؛ إنهم سيضعون في حسبانهم فكرة التصويت لمرشح مؤيد للفلسطينيين، بينما قال 64% من الناخبين في عموم بريطانيا؛ إنهم سيفعلون الشيء نفسه.
قدم حزب العمال وعودًا بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، والكثير من مرشحيه لم يلطخهم السؤال الفلسطيني، كما فعل برجالات حزب المحافظين. تلك معاناة إضافية حلّت بحزب المحافظين ضيقت عليه الخناق من جهة لم يكن يتوقعها.
تبدو آلية التصويت، على المستوى النفسي الفردي والجماعي، شديدة التعقيد. القول؛ إن تجاهل السلطة للرأي العام حين يتعلق الأمر بقضايا أخلاقية كالحرب على غزة ليس ذا تأثير هو جهل بكل شيء.
وليس مستغربًا تجاهل حزب المحافظين للملايين التي نادت بإيقاف الحرب على غزة، فقد سبق لتاتشر أن قالت؛ إن المجتمع لا وجود له. سيطول شرح الأسباب التي أدت إلى “انهيار الصفائح التكتونية” في السياسة البريطانية على وجه الخصوص، وفي العالم الغربي بشكل عام، غير أن ما قاله بيسمارك قبل أكثر من قرن من الزمان يحمل الجزء الأكبر من الإجابة: “إذا لم نهتم بأمر الفقراء فسوف يهتمون هم بالسياسة”.
*نشر أولاً في الجزيرة نت