نعيش فى عالم مضطرب تتنوع صراعاته من اقتصادية وتجارية وتكنولوجية إلى سياسية وعسكرية، وتتسع لتشمل كافة الأقاليم والمناطق بما فيها أكثرها صغرا مساحة وسكانا وأقصاها بعدا عن خطوط انتقال الناس والبضائع.
نعيش فى عالم يتجاوز التعداد الإجمالى لشعوبه أكثر من ٨ مليارات، ويواجه تغيرات مناخية بها ارتفاع خطير فى درجات الحرارة وارتفاع لا يقل خطورة فى مستويات سطح البحر وتناقص كارثى فى الموارد المائية المتاحة فى بعض الأماكن وخروجها عن السيطرة وتسببها فى أعاصير وفيضانات فى أماكن أخرى. وللتغيرات المناخية تداعيات مجتمعية واسعة تتراوح من ارتحال وهجرة مئات الملايين إلى فقدان مئات ملايين آخرين لفرص الحياة الآمنة، ومن تصاعد حدة صراعات بين الدول وداخلها حول اقتسام الموارد والثروات وفرص العمل والحصول على الخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية إلى تقلبات متعاقبة فى النشاط الزراعى والاقتصادى فى بلدان عديدة ورواج للقوى والأحزاب السياسية المعادية لوجود الأجانب واللاجئين والمهاجرين فى الغرب الأمريكى والأوروبى وتبنى أيديولوجياتهم من قبل بعض الحكومات فى الجنوب العالمى.
نعيش فى عالم يغيب عنه التوافق بشأن سبل التغلب على تحدياته الكبرى.
فالتغيرات المناخية التى يريد الجنوب العالمى ويريد الأوروبيون والديمقراطيون فى الولايات المتحدة الأمريكية كبح جماحها بخفض الانبعاثات الكربونية والحد من الاحتباس الحرارى وتعظيم الاعتماد على الطاقة المتجددة وتعديل أنماط الاستهلاك البشرى (للمياه والطاقة اقتصادا، وللغذاء حدا للمنتجات الحيوانية التى تستهلك الكثير والكثير من المياه والطاقة، وللأرض انفتاحا على استخدامات عادلة وتشاركية لا تهمش محدودى الدخل والفقراء)، لا تراها القوى الآسيوية الكبرى تستلزم التخلى عن جهودها التصنيعية الواسعة ولا تعتبرها الدول المصدرة للنفط والغاز الطبيعى مدعاة سوى لشىء من التغيير فى قطاعاتها الاقتصادية والخدمية بإدخال بعض التنوع وشىء من الانفتاح على الطاقة المتجددة دون التخلى عن الاعتماد على مداخيل النفط والغاز.
أما الكوارث الطبيعية والبيئية التى توالى ضرب أقاليم ومناطق العالم بزلازل مدمرة فى تركيا وسوريا والمغرب، وفيضانات وأعاصير فى باكستان وبنجلاديش وليبيا وألمانيا والولايات المتحدة، وموجات الحر الشديد فى الهند والصين والعراق والسعودية ومصر واليونان والمكسيك، فتتحسب لها البلدان المتقدمة والغنية وتقلل من أضرارها البشرية والمادية بإجراءات استباقية بينما تنتظر البلدان محدودة التقدم والثروة وقوعها كضربات القدر التى تأتى فى لحظات على الأخضر واليابس وتخلف مئات الآلاف من الضحايا والمصابين والمهجرين والمرتحلين. عندها، وبعد فوات الأوان، يستفيق المتقدمون والأغنياء (حكومات ومجتمعات مدنية) ويرسلون قوافل المساعدات وفرق الإغاثة لتجد فى انتظارها رائحة الموت ومشاهد الدمار.
- • •
وكأن التغيرات المناخية والكوارث الطبيعية والبيئية لا تكفى وحدها لفرض الاضطراب والفوضى على عالم القرن الحادى والعشرين (فى حدها الأدنى) ولتهديد وجوده (فى حدها الأقصى)، فتعبث بمجتمعاتنا وبلداننا صراعات داخلية وخارجية تتسع رقعتها شمالا وجنوبا وشرقا وغربا وترتب هنا صدامات عسكرية وحروبا أهلية وشبهات جرائم ضد الإنسانية وهناك حروبا نظامية وتلويحا متكررا من البعض بقرب توظيف أسلحة الدمار الشامل لإنهاء معارك تعجز عن حسمها الأسلحة التقليدية، وكأن كافة مفاهيم الأمن والسلم العالميين التى استقر عليها العالم منذ امتلك كباره القنابل والصواريخ النووية لم تعد ذات نفع أو مصداقية.
وعلى سبيل المثال لا الحصر فى عالم اليوم كثير الصراعات والعنف، تتعرض منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ومنذ سنوات لخليط دامٍ من الصدامات العسكرية المتكررة فى المشرق العربى تحديدا فى العراق وسوريا وفى ليبيا بين شرقها وغربها، ومن الحروب الأهلية فى اليمن الذى دمرت بناه المجتمعية والسياسية والسودان الذى يشهد كارثة إنسانية مكتملة الأركان (القتل العشوائى والتهجير الداخلى والمجاعات والتصفية العرقية ولجوء الملايين إلى الجوار) وانهيار للنظام العام، ومن حرب فى غزة تحيط بها، وبعد عشرات الآلاف من القتلى والمصابين والدمار المفزع الذى حل بالقطاع، شبهات حدوث جرائم ضد الإنسانية. ولكيلا يحسبن أحد أن الصراع والعنف يقتصران على منطقتنا التى أبدا لم تتوقف صداماتها وحروبها، دعونا نتحول بنظرنا إلى القارة الأوروبية التى ظنت شعوبها أن عهدهم بالحروب النظامية قد انتهى فى ١٩٤٥ حين وضعت الحرب الكونية الثانية أوزارها وتوقع سكانها أن الحروب الأهلية والنزعات الانفصالية وقوى التطرف جميعها مآلها إلى التراجع مع استمرار مشروع الاندماج القارى (اقتصاديا، تجاريا، ماليا، اجتماعيا، سياسيا). تلك القارة العجوز تدور على أرضها اليوم رحى حرب دامية بين روسيا وأوكرانيا، تلوح بها موسكو باستخدام السلاح النووى (التكتيكى») إن عجزت ترسانتها التقليدية ومسيراتها المستوردة من طهران عن حسم المعارك ولا تتورع بها كييف المسلحة غربيا عن التورط فى تفجير أنابيب الغاز الطبيعى «نورد ستريم» واستخدام الصواريخ الغربية فى مهاجمة المنشآت المدنية. تلك القارة العجوز، وبعد حروب دامية شهدها البلقان فى تسعينيات القرن العشرين، تواجه اليوم خطر الصعود غير المسبوق لليمين المتطرف والعنصرى الداعى إلى إغلاق الأبواب فى وجه اللاجئين والمهاجرين وغير الممانع فى تفتيت تجربة الاندماج القارى فى سبيل نزعات انفصالية ووطنية متطرفة ليس لها سوى أن تفتح مجددا أبواب جحيم الصدامات والصراعات الأهلية.
- • •
بل إن التغيرات المناخية والكوارث الطبيعية والبيئية والحروب الداخلية والخارجية التى تعصف بنا اليوم تفاقم منها وضعية الاستقطاب الفكرى والسياسى التى تعانى منها بلدان الشمال والجنوب العالمى على حد السواء.
فى فرنسا المقبلة على انتخابات برلمانية، تنقسم الهيئة الناخبة، من جهة، إلى مؤيدى اليمين المتطرف والعنصرى الذين لا ينصتون إلا إلى «التجمع الوطنى» ويتبنون برنامجه الداعى إلى الحد من الهجرة والسيطرة على المهاجرين (عبر إجراءات الدمج القسرى) والمشكك فى الاتحاد الأوروبى وفى النخب التقليدية الفاسدة، ومن جهة أخرى إلى مؤيدى أحزاب الوسط واليسار وأقصى اليسار الذين ينظرون إلى اليمين المتطرف كمرض عضال أصاب «الأمة العظيمة» ويهدد عبر صناديق الاقتراع تقدمها وتسامحها وعلمانيتها. وعلى الرغم من أن الانقسام الحاد فى المجتمع الفرنسى بين اليمين المتطرف وبين بقية الأطياف الفكرية والسياسية يلزم بالبحث عن شىء من الاعتدال فى الحملات الانتخابية الحالية لكيلا يهدد العيش المشترك وشىء من القضايا المشتركة (ولتكن مواجهة الفساد الداخلى وتحسين سياسات الضمان الاجتماعى والصحى للفقراء ومحدودى الدخل والوقوف فى وجه بيروقراطية الاتحاد الأوروبى) لكيلا ترتفع مناسيب الإقصاء والعنف بعد جولتى الانتخابات (فى ٣٠ يونيو و٧ يوليو ٢٠٢٤)، إلا أن الثابت هو أن وضعية الاستقطاب فى تصاعد مستمر وفعاليات السياسة والمجتمع فى طور الاستسلام التام لها (التصريحات الأخيرة لقائد منتخب كرة القدم الفرنسى كيليان مبابى نموذجا).
وبينما يمكن وبمقابلة كاملة إسقاط نفس التحليل السابق على حالة الولايات المتحدة التى تقترب من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية نوفمبر ٢٠٢٤ والاستقطاب بين اليمين الذى يمثله دونالد ترامب واليسار الذى يعبر عنه جو بايدن بات يمسك بكافة جوانب البلاد ويهدد بتوترات بالغة ويغيب اليقين السياسى والرضاء المجتمعى اللازمان للنجاح الاقتصادى، تظل وضعية السياسة والمجتمع فى بعض بلدان الجنوب العالمى كالهند وجنوب إفريقيا والأرجنتين والبرازيل، وجميعها تشهد مواجهات حادة بين اليمين واليسار، صريحة التشابه مع المثالين الفرنسى والأمريكى.
قد تتفاوت درجة الاستقطاب فى بلدان أخرى فى الشمال كألمانيا وبريطانيا وإيطاليا واليابان وقد يختلف التعبير الشعبى عنها فى عديد بلدان الجنوب التى تعانى من أزمات اقتصادية واجتماعية صعبة ولا يملك مواطنوها رفاهية التفكير فى الاختيارات الانتخابية، غير أن ثنائية غياب اليقين السياسى ومحدودية الرضاء المجتمعى تطل أيضا من هناك برأسها وتضيف إلى اضطراب عالم يذكر كثيرا بفترة ما بين الحربين الكونيتين (أى بين ١٩١٨ و١٩٣٩).
تتغير الحرب في القرن الحادي والعشرين نتيجة لاتجاهين رئيسيين: التغيرات في التكنولوجيا العسكرية وزيادة المنافسة الجيوسياسية، حسبما ذكر تقرير GPI. ويمكن الآن للمجموعات غير الحكومية أن تتعامل بشكل أكثر فعالية مع الدول الأكبر باستخدام تقنيات مثل الطائرات بدون طيار والأجهزة المتفجرة المرتجلة. لقد ارتفع استخدام الطائرات بدون طيار، حيث زادت الجماعات غير الحكومية من هجمات الطائرات بدون طيار بنسبة تزيد عن 1400٪ منذ عام 2018. وقد أدى هذا التحول إلى جعل الصراعات أكثر تعقيدا وأصعب في حلها.
وتؤدي التحولات الجيوسياسية إلى زيادة تعقيد إدارة الصراع العالمي. إن التحول من عالم أحادي القطب تهيمن عليه الولايات المتحدة إلى عالم متعدد الأقطاب أدى إلى اشتداد المنافسة وإطالة أمد الصراعات. فالقوى التقليدية مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تعاني من ضغوط شديدة، الأمر الذي يحد من قدرتها على إدارة التوترات العالمية بفعالية. ومن ناحية أخرى، تتنافس القوى الناشئة مثل الصين وروسيا والقوى المتوسطة الإقليمية بشكل متزايد على النفوذ في المناطق المتضررة من الصراعات في جميع أنحاء العالم.
وفقًا لمؤشر المساواة بين الجنسين لعام 2024، بلغ التأثير الاقتصادي للعنف على الاقتصاد العالمي في عام 2023 19.1 تريليون دولار من حيث تعادل القوة الشرائية. ويعادل هذا الرقم 13.5% من النشاط الاقتصادي العالمي (الناتج الإجمالي العالمي) أو 2380 دولارًا للشخص الواحد. يمثل الإنفاق العسكري والأمني الداخلي أكثر من 74% من إجمالي التأثير الاقتصادي للعنف، حيث يمثل التأثير الاقتصادي للإنفاق العسكري وحده 8.4 تريليون دولار في العام الماضي.
وفي البلدان العشرة الأكثر تضررا من العنف، بلغ متوسط التكلفة الاقتصادية للعنف 37.4% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2023، مقارنة بـ 2.9% فقط في البلدان العشرة الأقل تضررا. بلغ الإنفاق على بناء السلام وحفظ السلام 49.6 مليار دولار في عام 2023، أي أقل من 0.6% من إجمالي الإنفاق العسكري من حيث تعادل القوة الشرائية.
لقد شهدت العديد من البلدان انخفاضات هائلة في الناتج المحلي الإجمالي نتيجة للصراع العنيف خلال تلك الفترة. فقد انكمش اقتصاد أوكرانيا بنحو 30% في عام 2022 نتيجة للغزو الروسي، في حين تشير بعض التقديرات إلى أن الحرب الأهلية السورية أدت إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 85%.