“لا كلي”… حين يناضل باريسيون من أجل صالة سينما
باريس- ندى الأزهري (العربي الجديد)
حين تُغلق صالة سينمائية أبوابها في باريس، يتأسّف البعض، ويتابع عمله. لكنْ، حين تغلق صالة مثل “لا كلي”، تثور ثائرة باريسيين، ويستمر نضالهم سنواتٍ، لإعادة فتحها.
يتمسّك الفرنسيون بسينما الحيّ، تلك التي تكون بمعظمها “سينما فنّ وتجربة”. تتيح، في أجواء أليفة، مشاهدة أفلامٍ من مختلف الأنواع، لا سيما تلك التي لا تُعرض في الصالات الكبرى. سينما تكتفي بصالات قليلة، لا تُشبه المجمّعات الضخمة أبداً، وتوفّر أحياناً لمحبيّ الفنّ السابع لقاءات مع صانعي الأفلام، ونقاشات وندوات. مكانٌ حميم، يُكرّس جزء منه لتناول المشروبات، أو تجاور مقاه ومطاعم في الحيّ نفسه. لذلك، حين أغلقت صالة شهيرة في الشانزليزيه أبوابها، تأسّف باريسيون على غياب “صالة تاريخية” في الشارع الأجمل، والأغلى في العاصمة الفرنسية، لكنّهم قبلوا الأمر الواقع. في أيّ حال، انخفض تردّدهم على صالات الشارع بنسبةٍ تتجاوز الثلث في عقدين، خلافاً لنسبة عامة في فرنسا عادت، في العام الماضي، إلى ما كانت عليه قبل أزمة كورونا. لا يُفسَّر الأمر بأنّ الباريسيين لم يعودوا يذهبون إلى الصالات، بل لأنّهم ببساطة لا يودّون التوجّه إلى الشانزليزيه لمُشاهدة الأفلام. يتجنّبون هذا الحيّ، البعيد عن أجوائهم، بضجيجه وازدحامه وزائريه الكثيرين، وبأسعاره المضاعفة عن أيّ أمكنة أخرى. كما أنّ أفلام هذه الصالات يمكن أنْ تتوفّر في صالات أخرى، موزّعة في أحياء باريسية أقلّ شهرة.
أما صالة سينما “لا كلي” (المفتاح)، الموجودة في الدائرة الخامسة في باريس، فرغم تواجدها في الحيّ اللاتيني، إلا أنّ الشارع هادئ. تدافع عن فكرة أنّ قيمة المكان لا تُقاس بعدد أمتاره المربّعة، بل بإمكانيات يتيحها للتنظيم والإبداع الجماعي. تنظِّم عروضاً بأسعار حرّة لأفلامٍ نادرة، وتحرص على تنوّع المشهد السينمائي، في مقابل التجانس الثقافي المنتشر حالياً. مستقلّة، ومديروها مقتنعون بأنّ الأفلام منشأ التواصل، ومصدر النقاش. في إدارتها الذاتية، نموذجٌ متفرّد في العاصمة. ليست ملكية رأس مال، أو شركة توزيع أفلام، أو إنتاجها. صالة يتواجد مثلها في بلدات فرنسية صغيرة، تأبى الشركات الكبرى توفير دور عرض غير ربحية فيها، أو في أطراف المدن الكبيرة وضواحيها. لكنّ وجودها هذا يحصل حيث المنافسة على أشدّها بين الدور، في قلب باريس، وهذا استثنائي.
أغلق الصالةَ، عام 2018، مالكُ المكان، ولم تنفع احتجاجات فنانين وعاملين شباب في السينما ومحبيها، ولا احتجاجات سكان الحيّ المتعلّقين بها، وهؤلاء كانوا يجتمعون فيها ويتناقشون، للحفاظ عليها، فتبقى مفتوحة أمام جمهور متنوّع. بقيت مغلقة إلى أنْ احتلّتها مجموعة، عام 2019، وداومت على العروض، إلى أنْ طُردت عام 2022، ما أصاب كثيرين بالخيبة والحزن.
لـ”العربي الجديد”، يقول أندريه دو مارغوري، ساكن الحيّ ومسؤول في قناة “آرتي” الثقافية قبل تقاعده، إنّ “لا كلي” تمثّل “شبابه”، إذْ كان يتردّد عليها بانتظام منذ أنْ كان طالباً يبلغ 17 عاماً. صحيحٌ أنّ الحيّ كان مليئاً بـ”صالات فنّ وتجربة”. لكنّ “لا كلي” تحديداً “كانت تعرض أفلاماً مبتكرة، وهذا لم تكن تفعله صالات أخرى. أفلامٌ من العالم جديدة في نوعها”. إنّها سينما علّمت شبابه، وكان يلتقي فيها بشباب آخرين ويتناقشون. حافظ على عادته بالذهاب إليها حين سكن الحيّ، وأشعره إغلاقها بحزن كبير.
منذ نشأتها أواخر 1969، بعد الثورة الطلابية الشهيرة في باريس، تميّزت “لا كلي” سريعاً ببرمجتها الفريدة، التي تُسلّط الضوء على أفلامٍ لا توزَّع، لا سيما أفلام “الثقافات السوداء” وأفريقيا الساحلية وجنوب الصحراء الكبرى. صالة واجهت منذ إنشائها أسئلة سياسية، من قصص نضالات العمّال، إلى أفلام استقلال دول عن الاستعمار. توّفر مساحة مخصّصة للعيش المشترك، وتقدّم أفلاماً انتهى استثمارها في السوق، وأخرى لم تُعرض، لكنْ لم يتوفّر لها موزّع. تنظّم عروضاً خاصة، وتتعاون مع جمعيات ترغب في تنظيم عروض حول موضوع محدّد، وتقيم ورش عمل لدعم الإبداع.
كان للسينما العربية نصيب مما تتيحه هذه الصالة. فحين تعذّر تنظيم عروض لها في أمكنة أخرى، وجدت فيها صدراً رحباً، كما تقول لـ”العربي الجديد” هدى إبراهيم، الصحافية اللبنانية في “إذاعة فرنسا الدولية”. إبراهيم تعاونت مع الصالة لخمسة أعوام، لتنظيم “مواسم السينما العربية”. تقول عن تجربتها المثيرة مع هذه الصالة: “حالة خاصة في باريس، باعتبارها الوحيدة التابعة لجمعية لا يملكها رجل أعمال. كان التحدّي حين طُرد العاملون منذ خمس سنوات، بناء على رغبة المالك. بات الهدف ألا تعود ملكيتها إلى القطاع الخاص، كي لا تتحوّل إلى متجر، أو ما يشبه ذلك”. ترى أنّ خاصية المكان تكمن في تعامله مع جمعيات تعرض أفلاماً عن حقوق الإنسان، وسينما المقاومة، وفي مجالات أخرى: “سينما المغرب” و”مواسم السينما العربية”. كانت العروض تُنظَّم مع متطوّعين وعاملين في مجال السينما على مدار العام، إلى درجة يصعب معها إيجاد أسبوع متاح. شكّلت “مكاناً مفتوحاً للأفكار والأفلام المتنوّعة، التي تعبّر عن قضايا مهمّة، لا تمسّ المجتمع الفرنسي فحسب، بل البلدان النامية في العالم أيضاً. لذلك، كان هذا النضال للحفاظ على صيغة فريدة، تحظى بإقبال المشاهدين، ومختلفة عن السينمات التجارية، وإضافة إلى نحو 20 نادياً سينمائياً في باريس”.
بعد أربع سنوات ونصف السنة من النضال، واحتلال المكان عامين ونصف العام، بدأت جماعةٌ تحضّر مشروعاً اعتبر مجنوناً: شراء المكان لضمان بقاء الصالة مستقلّة وجماعية، وتدار ذاتياً. بعد عامين من حملة لجمع التبرعات، حقّقت هدفها، واشترتها جمعية “إحياء لا كلي” لجعل الصالة أول منفعة عامة في باريس، تخرج من المضاربة العقارية، وتضمن استخداماً سينمائياً مستقلاً وملتزماً، فتُبرمَج الأفلام بشكل جماعي.
تقول إبراهيم، التي دعمت تحرّكاتٍ ووقّعت عرائض موجّهة إلى وزارة الثقافة والجهات الرسمية وغير الرسمية: “حالياً، تملك الصالة جمعية. المهمّ هو النضال الذي خاضه أفرادها، والذي نجح بكسب دعمٍ مادي ومعنوي كبير، ليس فقط في فرنسا، إذْ وصل صيتهم إلى الولايات المتحدة الأميركية، وتلقّوا دعماً من مخرجين فرنسيين كثيرين، ومن آخرين أيضاً، كمارتن سكورسيزي وغيره”.
ستفتح الصالة أبوابها يوم الخميس لثلاثة أيام من العروض، قبل إغلاقها مجدّداً لسنة واحدة، لإجراء إصلاحات.
تتيح الصالة بحسب إعلان الجمعية بعد عودتها، مكاناً للترحيب والابتكار والاحتجاج، ومورداً للجماعات التي ليست لديها مساحة خاصة بها. فالأحداث الحالية تحثّ على تشجيع الاستقلال السياسي، ونسج أشكال جديدة من الحرية والتضامن وتشجيع المساعدة المتبادلة. ويعبّر كثيرون عن فرحتهم وفخرهم بنتيجة نضالهم ودعمهم.
ترى إبراهيم أنّ النضال الذي خاضه هؤلاء المدافعون عنها “يبشّر بالخير، لحيوية المكان، وضرورة تواجده، لا سيّما في التحوّلات السياسية التي تعيشها فرنسا”. وتضيف أنّ الصالة “تقدّم اقتراحات سينمائية كثيرة ومتنوّعة، وتوزّع أفلاماً من جغرافيات أخرى. هذان التنوّع والاختلاف يساهمان في صنع وجه باريس الحقيقي، التي تفتح صدرها لكلّ ثقافات العالم. بقاء المكان حرص على بقاء التنوّع الباريسي، وعلى انفتاح فرنسي على ثقافات الآخر”.