“الحوبان” قرية صغيرة تقع في شمال محافظة تعز، وعبرها يتنقل أبناؤها إلى باقي المحافظات شمال البلاد، وهي معبر إلى المحافظات الجنوبية. و”الحوبان” أيضاً هي مركز أكبر المصانع اليمنية، كما أن الطريق الواصل إلى مسجد الجند التاريخي (بناه معاذ بن جبل الأنصاري) وإلى مطار تعز، يمر بها.
لم يخطر في بال أحد أن “الحوبان” ستصبح عند اليمنيين نموذجاً فاضحاً لأسوأ ما أفرزته الحرب اليمنية الدائرة منذ 10 أعوام، وهي القرية التي رغم صغر مساحتها فإنها أضحت التعبير المحزن لمدى الهبوط الذي أجاز ليمني أن يحاصر أخاه اليمني، وجعل التنقل بين شمال “تعز” وبقية مناطقها مغامرة محفوفة بأخطار ومعاناة لا يقوى عليها المريض والطفل وكبير السن.
يكفي لفهم المعاناة التي جلبها إغلاق ذلك الطريق أن الزمن الذي كان لا يتجاوز 30 دقيقة للوصول إلى قلب المدينة أصبح يتجاوز ست إلى ثماني ساعات، ويعبر نقاط تفتيش وجبايات واستجواب تجعل من الرحلة الإجبارية عذاباً وهواناً.
إصرار غريب
كان غريباً إصرار الحوثيين على إبقاء المعبر مغلقاً بعد التوصل إلى اتفاق لاستمرار الهدنة، وإن كان غير معلن رسمياً، ولم يجد أحد تفسيراً منطقياً لاستمرار الرغبة في جعل المعبر ورقة سياسية بعدما فقد قيمته العسكرية. وتوَّلدت قناعة عند أبناء تعز بأن إغلاق طريق “الحوبان – تعز” ما هو إلا تعبير عن مشاعر سلبية تجاههم من أبناء المناطق الجبلية.
وفاقمت هذه المشاعر الرفض المطلق والشك العميق بكل ما تقوله وتقرره وتمارسه “الجماعة”، إذ رأى أبناء تعز في الأمر إصراراً غير مبرر وغير مفهوم على إذلالهم ومعاقبتهم على مقاومتهم لمحاولة “الجماعة” السيطرة على مدينتهم.
من العسير تفهم أن قيادات “الجماعة” تغافلت ولم تستوعب ولم تنتبه إلى دروس التاريخ والجغرافيا والروايات، وكلها كانت كافية لإلزامها بإعادة التفكير في كيفية التعامل مع منطقة يسكن أعماقها نفور تاريخي من صنعاء السياسية، وليس صنعاء المجتمع الجميل الذي استوعب كل أبناء اليمن ولا يزال.
كل ما يأتي من الشمال
تضاعفت مشاعر الخصومة تجاه كل ما يأتي من الشمال، وجرت استعادة قراءة تاريخ قديم ممتلئ بالغث والسمين، لكن الناس كانوا مهيئين لتقبل كل ما يؤجج انفعالاتهم ويعبر عن حنقهم تجاه كل ما يأتي من صنعاء. وهكذا تحول توجه الشعور إلى رفض مناطقي ومذهبي وتاريخي رغم أن كثيرين ما زالوا يسكنونها من دون أي قلق ولا مشاعر خصومة.
ويحاول كثر تفسير القرار المفاجئ وغير المتوقع رغم إيجابية تأثيراته إنسانياً واجتماعياً، بغض النظر عن المبررات التي يروج لها البعض مثل المنجمين. والأهم هو أنه عمل ينفع الناس ويمكن البناء عليه، ويؤكد أن العمل المجتمعي والوساطات المحلية قادرة على تهدئة الأوضاع الإنسانية بعيداً من التوترات السياسية ومنازعاتها.
التقاط الأنفاس
من المؤكد أن فتح الطرقات في تعز، كما في مأرب، سيمنح المواطنين فرصة لالتقاط أنفاسهم بعد معاناة صارت جزءاً من حياتهم اليومية لسنوات، وستكون الإنجاز الأخلاقي والإنساني الوحيد وسط مناخات الكراهية والحقد التي أنتجتها وخلفتها الحرب. كما يجب الاستفادة من هذا المناخ للعمل المجتمعي في خفض منسوب التأجيج الذي يتقنه الكثر، والبحث وسط هذا الركام الكثيف عما يجمع الناس ولا يفرقهم، بعيداً من خلافات وأحقاد صارت هي المسيطرة على التفكير عند الجميع.
يتحدث بعض الناس عن القلق من استغلال الحوثيين فتح الطرق، على رغم فشل القيادات السياسية في التوصل إلى أي اتفاق إنساني إلا عبر المبعوث الأممي لإطلاق مجموعات من الأسرى، مما يفضح مستوى الهبوط الأخلاقي في حل الملفات الإنسانية بعيداً من المزايدات.
كوميديا سوداء
ولكن هذا القرار الإيجابي إنسانياً وأخلاقياً تزامن مع إطلاق الاتهامات في صنعاء ضد مجموعة من المواطنين الذين ألصقت بهم أجهزة الأمن تهم التخابر والتجسس لمصلحة الولايات المتحدة وإسرائيل. ولمعرفة كثيرين بعدد منهم، فقد أصابتهم الحيرة من هذه الاتهامات، وجعل الاستماع إلى بعض ما قالت “السلطة” في صنعاء أنها اعترافات “الجواسيس” يبدو كوميديا سوداء هي أقرب إلى الهزل والسخرية منه إلى أقوال يمكن التعويل على صحتها وجديتها.
إن الحديث عن هذا الملف الأمني يستدعي إلى الواجهة رواية جورج أورويل “1984” التي تصف المجتمع الذي لا يعلو فيه صوت على صوت الحاكم، ويتحول فيه كل الناس إلى جواسيس على بعضهم، ولا يظهر “الأخ الكبير” إلا عبر شاشة ضخمة وميكرفونات، وتكون فيه المهمة الوحيدة لكل المؤسسات الحكومية هي نقل رغباته وتعليماته. وهذه الصورة هي الأقرب إلى ما يحدث في صنعاء السياسية.
“المسرحية” الهزلية التي أعلنت عنها السلطات في صنعاء تعيد تأكيد ضيق أفق “السلطة” فيها، وعدم تسامحها مع الآخر أياً كانت جذوره وأفكاره ويقينياته. وفي اللحظة التي ظن فيها كثر أنها بدأت في اتخاذ خطوات تمهد وتسهم بالبدء في استعادة الإنسانية إلى المجتمع، إلا أنها تقمصت روحاً متوحشة، وغلب الطبع التطبع، مما سيجعل من العسير، وربما المستحيل، الثقة بها، ناهيك بالتوافق والشراكة معها.
ومن الواضح أن “السلطة” في صنعاء لا تعي حجم الدمار النفسي والمجتمعي الذي تلحقه تصرفاته بالروابط الوطنية، إذ تمعن في غرس التوحش بتصرفات سلطة “الأخ الكبير” المرعبة، وهي مخطئة إذ لا يستذكر قادتها الحكمة التاريخية “لو دامت لغيرك ما اتصلت إليك”، وعليهم أن يقرأوا اليافطة التي تستقبل الواصلين إلى تعز “في تعز لا سيد إلا الشعب” وهي رسالة لا تحتمل التأويل.
*نشر أولاً في اندبندنت عربية