«من العُدين يالله.. يالله بِريح جَلاَّب»، مَطلَع لِغنائية شَهيرة، فيها شَوق وتَمَني لـ «عُلوم الأحباب»، أعـدتُ ذات التمني، وكـان لي مَا أردت، قِصةٌ مُختلفة، لثائرٍ مُختلف. «من العُدين يالله.. يالله بِريح جَلاَّب»، مَطلَع لِغنائية شَهيرة، فيها شَوق وتَمَني لـ «عُلوم الأحباب»، أعـدتُ ذات التمني، وكـان لي مَا أردت، قِصةٌ مُختلفة، لثائرٍ مُختلف، أنْجَبته تلك البَلدة الطيبة، حيث الطبيعة الخَلابة، والجَمال الأخاذ، على بِساطها الأخضر سطرَّ ملاحمه البطولية، وفوق ثَراها الأسمر أتقن اختيار مَوته، فاستحق عن جَداره لَقَب «شهِيد الأرض».
على ضِفاف «وادي نَخلة» عـاش الثائر الاستثنائي علي عبدالله، الذي حمل اسم منطقته «جباح»، ورث منها الحياء، ومن مَلماتها صقل الكبرياء، تحدى الصِعاب، وجَعلها تلين، حَرث الأرض بتفان ويقين، كانت هَاجسه وقَلقه، اعطاها جُلَّ وقته، وخُلاصة جُهده، رواها بِعرقه، فأعطته ما شاء كيفاً وكما، وللفقراء المعوزين وزع زكاته، ولوجه الله أطال سُجوده، حَامداً شاكراً أنه لم يُعطه أرضاً سِواها.
فجأة وبِدون سَابق إنذار، توقفت المَواسم عن توزيع ابتسامتها المَعهودة، لم يَعد صَخبها يَستحث الأفئدة، ويوقظ الحنين، عكر القادمون من شمال الشمال صفو اللحظة، جَعلوها كئيبة وباهتة، نهبوا خيرات الطبيعة، أذلوا الرعية، وزرعوا الأوجاع والأنين، حدث ذلك حين قام الإمام يحيى بمساعدة «ذئبه الأسود» على الوزير باجتياح مناطق «اليمن الأسفل»، بعد أن غَادرها الأتراك، نهاية العام «1918».
وحده الشيخ علي عبدالله جباح وقَف في وجهِ الطُغيان، رافضاً حَياة الذُل والهَوان، لم يَستسلم كأقرانه، أو يخضع أو يلين، مَضى بحسهِ المُرهف، ووطنيته الفَـذة، ونزعته الوجـدانية المُتـأصلة فيه، مُدافعاً عن الأرض، مُنتصراً للكرامة، وحين أرسل إليه علي الوزير «أمير تعز» بحشدٍ من العساكر لغرض تَحصيل الجبايات المَفرُوضة عليه، طردهم شرَّ طرده، مُؤكداً وهو صَاحب الحق، عدم إذعانه للغازي الغَريب، حتى ولو كان الثمن حَياته.
استشاط «الذئب الأسود» غضباً، هدد وتوعد، وأزبد وأرعد، وأرسل من فوره حملة عسكرية قوامها «60» عُكفياً، بقيادة قناف الجائفي، لم يَدعهم «جباح» يتخطوا شبراً واحداً من أرضه، وحين رآهم مستميتون في الوصول إليه، تحصن في منزله الطِيني المُتواضع، مُترصداً لخطاهم المرتبكة، فيما ابنته «شلعة» تساعده في تلقيم البندقية، وتحملها عنه لتأمينه حال تسلله لمنزله الثاني، للاستزادة بالمؤن والذَخيرة، وكانت بِحق كأبيها شُعلة في الشجَاعة والإقدام.
في غَمرة الدَهشة الممزوجة بالحسرة، تساءل القائد «قناف» والغيض يكسوا مَلامِحه: «من هذا العُديني الذي تجرأ على مواجهتنا، من يَحسُب نَفسه ؟!!»، قرر التَوغل بمفردة، مُتجاوزاً طَلقات «جباح» التحذيرية، وتحذيرات عساكره، سَقط قتيلاً، مُضرجاً بِدماء الخَيبة، أخذ العسكر جُثته، وانصرفوا مُكررين ذات السؤال؛ مُجددين العزم على العَودةِ مرة أخرى للتشفي والانتقام.
«أمير تعز» هو الآخر لم يَستوعب المَشَّهد، استمرَّ بإرسال الحَملات العَسكرية، لتعود جَميعها خائبة، نَزلت المفاجأة عليه كالصاعقة، حين أفاق ذات صباح و«جباح» أمامه بشحمه ولحمه؛ طفقا يتحدثان وكأن شيئاً لم يَحدث؛ كـ «الأسد الهصور» وقف الثائر العُديني في حَضرة «الذئب الأسود»، مستفسراً عن سبب ارسال تلك الحَملات؛ مؤكداً التزامه بدفع ما عليه من زكوات، بموجب ما حدده الشرع، فما كان من «الأمير» إلا أن صَفح عنه، وأذن له بالعودة إلى عَرينه.
رُغم الخدمات الكبيرة التي قدمها علي الوزير لسيده الإمام يحيى، إلا أن الأخير تَنكر له، كما تنكر لسواه؛ خاصة حين كبر الأبناء «سيوف الإسلام»، السيوف الأثرية حد توصيف شاعر فِلسطيني؛ وزعَ اليمن بَينهم كإقطاعيات «1937»، واستحدث تقسيمات إدارية للنواحي والألوية، عمقت القطيعة، وصَعبت معاملات الرعية، وبِمُوجب ذلك صار «قَضاء العُدين» تابعاً للواء إب، جَعل عليه الأمير «الحسن» ثالث ابناءه، وأكثرهم شبهاً به، خَلقاً وخُلقاً، أما تعز فقد كانت من نصيب ولي عهده «أحمد ياجناه».
كان الأمير «الحسن» حقوداً بَخيلا، عدَّ الإفراط في الظُلم رحمة؛ عملاً بمبدأ «هاملت» القديم: «لابد بأن اقسو لكي أبدو رحيما»؛ سام الرعية صُنوف العذاب، وحين حَدثت مَجاعة «1942» منع فتح «المَدافن» المليئة بالحبوب للناس المتوافدين عليه، حتى مات أكثرهم أمام ناظريه، ومن مفارقات القدر أن الذي تصدق بشراء الأكفان، وعمل على دفن الضحايا، كان أحد التجار اليهود؛ ويدعى داؤود الصبيري، أما هو فقد أغلق عليه داره؛ وكأن الأمر لا يعنيه.
وفيه قال القاضي عبدالرحمن الإرياني:
حسن ابن الإمام لا احسن
الله إليه ولا عداه السقام
يأخذ المال يهتك العرض
لا يسلم منه النساء والأرحام
كما خاطب في ذات القصيدة أباه الإمام يحيى:
أنصف الناس من بنيك وإلا
أنصفتهم من دونك الأيام
إذا كان «أمير تعز» المَعزول أرسل حملات عسكرية لإذلال «جباح»، فإن «أمير إب» المَغرور أرسل بجيش كبير لذات الغَرض؛ مسنوداً بمدفع تركي قديم؛ وجعل على ذلك الجيش نائبه «السياغي»، حطَّت تلك القوات على هِضاب مَنطقة «الوزيرية»، فيما تَكفل الشيخ حَميد دماج بضيافتها، ومن ذات المَنطقة صبَّ المَدفع المُتهالك حممه على منزلي «جباح»، ومنطقته المُسالمة.
حَام الموت حول «جباح» إيغالاً بالفتك به، نجا منه أكثر من مَرة، ولأنه مُحارب من الطِراز الأول، كان يسارع كل ليلة في سد الفجوات التي استحدثتها تلك القذائف، خاصة وأن منزلاه مبنيان باللبن الغير محروق، الأمر الذي سَهل مُهمته، وأغاض مُحاصريه، الذين كانوا يفيقون كل صباح على صورة مُختلفة، عن تلك التي رسموها؛ وبعد شهر كامل من الحصار والقصف المتواصل، أرسل «السياغي» له بمكتوب الأمان، التقيا، فألزمه بتدمير الأدوار العلوية لمنزليه؛ وبالفعل لم تنسحب تلك القوات إلا بعد أن نفذ «جباح» ذلك الاتفاق المُذل.
كانت العُدين واحدة من ثلاث مَناطق استباحها الإمام أحمد بَعد إخماده لثورة الأحرار الدستورية «مارس1948»، بعد مدينتي شبام وصنعاء، عامئذ وقف الثائر «جباح» على شُرفة داره العتيق، يَرقب جَحافل الفيد وهي تجتاح بِلاده، وتعيث فيها نَهباً وخَرابا، وحين انحرفت مجموعة من أولئك العساكر المتوحشون نحوه، تصدى لهم ببسالة، وقتل منهم «12» عُكفياً.
على ظهر مَترسه القَـديم، استحضر «جباح» بطولات الأمس القريب، القى نظرة وداع خاطفة على الأرض التي أحبها وأحبته، واحتلت قلبه وعقله ووجدانه، ورغم أن الحزن لا يليق به، استسلم مُجبراً لأحزان الرَحيل، وانهمك في تأبين أحلامه، وحين رآه «المتفيدون» على حالته تلك، لم يرحموا جسده الغض، ولا كهولته المتشبثة بالأرض، صبوا عليه جمَّ حِقدهم، وأردوه شهيداً، عن «70» عاماً قَضاها في خِدمة مَحبُوبته.
قـفـلــة:
هذه الأرض التي سرنا على
صهوات العز فيها وأتينا
ومَلكنا فوقها أقدارنا
ونواصيها فشئنا وأبينا
أبداً لن تنتهي فيها انتصاراتنا
إلا إذا نحن انتهينا
«الفضول»