حرب سياسية بأدوات اقتصادية
EN
تبدو القرارات الاقتصادية التي اتخذها البنك المركزي اليمني في عدن بوقف التعامل مع ستة بنوك وشركات صرافة على خلفية ضغطه نقل مقراتها الرئيسية من صنعاء إلى عدن وسحب الفئات النقدية القديمة تدريجيا، في سياق جهوده الرامية إلى إنهاء الانقسام النقدي وحماية النظام المصرفي من الانهيار لكن ثمة مؤشرات أخرى في الواقع تقول إنه لا يمكن فصل هذه القرارات عن التوتر الملحوظ بين السعودية والحوثيين وتصريحات السفير الأمريكي لليمن والتي تؤطرها في سياق أكبر من البُعد المحلي والاقتصادي البحت، والتي لكل منهما أهدافه؛ السعوديون يريدون عودتهم للتفاهمات المشتركة والأمريكيون يسعون لوقف هجماتهم في البحر الأحمر.
برر البنك قراراته تجاه البنوك بسبب عدم “التزامها بتعليماته ومخالفتها لقواعد العمل المصرفي وأحكام القانون”، مع اقتراب انتهاء المهلة التي حددها للبنوك التجارية في صنعاء لنقل مراكز عملياتها، وكان اللافت في هذه القرارات هو لجوء البنك أخيرا إلى خيار سحب كافة العملات الورقية المطبوعة قبل عام 2016، ومنح من يحتفظون منها فترة شهرين لاستبدالها.
لكن ما تأثير هذه القرارات على الحوثيين؟ يجيب أستاذ الاقتصاد بجامعة تعز د. محمد قحطان، أن البنوك التجارية في صنعاء قد تذهب إلى نقل ما أمكن من أرصدتها واستثماراتها للخارج، مما سيشكل ضربة قوية لاقتصاد الحوثيين، وهذا سيدفع لرفع الطلب على العملات الأجنبية وزيادة الضغط على الريال اليمني وصولا إلى حدوث أزمة سيولة للعملات الأجنبية في صنعاء، حسبما نقل عنه موقع “يمن فيوتشر”. وينقل نفس المصدر عن مصطفى نصر رئيس مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي، تحذيره من حدوث مزيد من الانقسام النقدي في حال عدم معالجة الأمر في إطار سياسة موحدة وتوقع دخول البلاد في عزلة اقتصادية كارثية إذا استمر التصعيد بين الطرفين. من جهة أخرى يرى الخبير الاقتصادي أن نجاح البنك في تنفيذ قراراته يعتمد على الدعم الذي سيحصل عليه من السعودية، ويقترح تحييد النشاط المصرفي عن الصراع ضمن قواعد مهنية متفق عليها.
بالنسبة للحكومة المعترف بها دوليا، فهي ترزح تحت ضائقة مالية، حيث انخفض متوسط الإيرادات الشهرية الموردة للبنك المركزي بعدن في الأشهر الأخيرة إلى حوالي ٢٦ مليار ريال يمني ويتم تغطية العجز المالي من “الوديعة” السعودية بحسب محمد حلبوب رئيس البنك الأهلي الحكومي، ويرجع هذا العجز المالي إلى جملة من العوامل منها الفساد المستشري بقوة في مفاصل الحكومة وأجهزتها في ظل غياب أي دور رقابي ومحاسبي للأجهزة المعنية مثل الهيئة العليا لمكافحة الفساد والجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة ونيابة الأموال العامة ومجلس النواب.
ومما يُؤسف له أنه لا يتم الحديث عن هذا العامل في سياق تحليل الأزمة المالية لا من قبل الحكومة ولا جوقة المطبلين لما يترتب على ذلك تسليط الضوء على العبث وهدر المال العام على التعيينات غير القانونية وغير المفيدة للجهاز الإداري للدولة المترهل أصلا وهي التعيينات التي تشمل مناصب كبيرة وعليا من قبيل نواب وزراء ووكلاء وزارات وجيش مستشارين تُدفع رواتبهم بالدولار ما يعادل رواتب آلاف الموظفين بالعملة المحلية (حلبوب ذكر أن الصرف الشهري لما يُسمّى “الإعاشة” يبلغ ١٢ مليون دولار وهناك من يقول إن الرقم أكبر)، وهناك مثال آخر على الفساد وهو ملف الكهرباء الذي تم الإنفاق عليه العام الماضي فقط تريليون وعشرة مليار ريال باعتراف رئيس الحكومة أحمد بن مبارك الذي يوضح حجم الفساد بالقول “فمثلاً الوقود الذي كان يتم شراؤه بـ1200 دولار للطن سنشتريه الآن بـ760 دولاراً للطن”.
وعلاوة على ذلك، تأثرت الإيرادات بقرار الحوثيين وقف تصدير النفط للخارج ما أدى إلى خسائر قدّرها بن مبارك بملياري دولار وقد فشلت حكومة سلفه في القيام بواجبها باستئناف التصدير بأي شكل رغم تصريح رئيسها أنهم لن يقفوا مكتوفي الأيدي ولن يسمحوا بالإضرار بالاقتصاد وإن الحكومة ستقوم بكل ما يلزم للحفاظ على هذا المورد.
وعلى خلفية هذه المعطيات، جاءت قرارات البنك المركزي في عدن والمعترف به دوليا باعتباره جزءا من الحكومة نفسها ولا مشكلة في هذا الجانب، وقد تم النظر إليها على أنها محاولة لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه من النظام المصرفي والمضي قدما نحو إنهاء الانقسام النقدي.
ولا شك أن الحوثيين يتحملون المسؤولية الكبيرة في هذا المأزق الاقتصادي بسبب سياستهم في نهب الاحتياطي الأجنبي قبل قرار نقل المركز الرئيسي للبنك المركزي إلى عدن، بالإضافة إلى الضغط على البنوك الخاصة على وضع معظم ودائعها لدى البنك المركزي بصنعاء بما في ذلك أموال المواطنين المودعين ما ترتب عليه عجزها عن تمكينهم من سحب المبالغ التي يريدون وقتما يشاءون، وكانت الضربة القاضية هي قرارهم رفض التعامل مع الطبعة الجديدة من العملة في ديسمبر ٢٠١٩، وهذا فاقم الانقسام النقدي وأصبح هناك عملتين وبنكين لكل منهما سياسته الخاصة التي يدفع ثمنها المواطن أولا وبشكل كبير ثم القطاع المصرفي عموما بدرجة ثانية.
وقد نجم عن هذا الوضع، انهيار العملة وكسر ظهر المواطن الذي يعاني أصلا والتهام مدخراته وزاد معاناته جراء عمولة الحوالات من مناطق الحكومة إلى مناطق الحوثيين والتي كانت تصل في بعض الأوقات إلى ضعف المبلغ المُرسَل نفسه، فإذا كان المبلغ المحوّل مائة ألف ريال يمني تكون العمولة مائتين ألف ريال.
ولكي نقرّب حجم المأساة والكارثة منذ اتخاذ هذا القرار عام ٢٠٢٠ مع أنه لن يشعر بها إلا صاحب التجربة نفسها، تخيل شخصا يرسل لأسرته شهريا ٥٠ ألف ريال عمولتها في المتوسط نصف المبلغ وفي بعض الأحيان ضعفه، فسوف تكون النتيجة خسارته ١٧٥ ألف ريال في حال كانت العمولة نصف المبلغ على مدى ٧ أشهر بينما كانت عمولة هذا المبلغ ٣٥ ألف ريال، أما إذا كانت العمولة ضعف المبلغ لمدة خمسة أشهر فيسخسر مائتين ألف ريال وبذلك يكون إجمالي خسارته في عام واحد فقط هي ٣٧٥ ألف ريال وهو كان أحق به، ويمكنك القياس على المبالغ الكبيرة ورفع عدد أشهر العمولات المضاعفة.
إنها مأساة يراها البعض أقسى من الحرب نفسها، حيث دفعت آلاف الأسر إلى قائمة العوز والفقر واضطرت أخرى لبيع مدخراتها لتغطية التزاماتها وتركت أخرى تعاني الحرمان لعجز عائلها عن التحويل المنتظم لتدني دخله وعدم قدرته على تأمين عمولة التحويل وهو الذي بالكاد استطاع تدبير مبلغ المصروف لأسرته بشق الأنفس.
وفي ظل هذا الواقع الكارثي، لم تفلح أي جهود في دفع الحوثيين للتراجع عن قرارهم رفض السماح بتداول العملة، لأنهم اعتبروه ترسيخا لسلطتهم السياسية من جهة وفرصة لجمع أكبر قدر ممكن من الطبعة الجديدة مما يقع بين أيديهم من المتعاملين بها تجارا أو صرافين من جهة ثانية للاستفادة منها لاحقا في شراء العملات الأجنبية من مناطق الحكومة وزيادة احتياطاتهم من هذا النقد، وكل هذا كان له أثر بالغ في مضاعفة معاناة الناس، فموظفي الدولة بمناطق سيطرتهم الذين يستلمون رواتبهم من الحكومة مثل أساتذة الجامعات والمعلمين والقضاة، يفقدون مبالغ كبيرة على شكل عمولة الحوالات، وأكثر منهم يتكبد خسائر أولئك المواطنين الذين يعملون بمناطق الحكومة ويرسلون حوالات شهرية لأسرهم.
في المقابل لم تقم الحكومة بأي خطوة تحبط مساع الحوثيين وتفشل سياستهم وتركت المواطن فريسة سهلة لهم وهي التي طبعت الفئة النقدية الجديدة التي كانت الذريعة دونما ضمان تداولها في جميع المناطق مما أفقدها الثقة العامة مع أنه كان هناك خيارات مطروحة يُمكن اتخاذها ومنها سحب الفئة النقدية القديمة تدريجيا من السوق كما حدث مؤخرا في قرار البنك وهذا يشكك في دوافع توقيت القرارات لا جدواها كليا، ذلك أنه لو كان الدافع هو الحرص على الاقتصاد ومعيشة الناس وإنهاء الانقسام لتم اتخاذ مثل هذه الإجراءات أو غيرها في ذلك الوقت أو بعد تولي أحمد المعبقي منصب محافظ البنك، لكن أن يُقال بعد كل هذا الوقت المهدور والثمن الباهظ الذي دفعه المواطن تحديدا، “أن تأتي متأخرا خير من أن لا تأت” فهذا لا معنى له لأن المنطق يقتضي محاسبة المسؤولين المقصّرين لا مكافأتهم على ما كان يجب عليهم فعله بالأمس بدلا من اليوم.
لا جدال في أحقية البنك المركزي في اتخاذ السياسات والإجراءات التي تحمي النظام المصرفي واستقرار العملة وتوحيد السياسات النقدية ولكن السؤال هو: هل يستطيع البنك المضي في تنفيذ قراراته حتى النهاية وعلى ماذا يعتمد في دعمه غير مشروعية وظائفه؟
المعطيات تشير إلى أن هذه الإجراءات هي حرب سياسية بأدوات اقتصادية وهي امتداد للمعارك التي كانت تندلع بين وقت وآخر ويتم حلها من قبل المبعوث أو القطاع الخاص، وقد تبدو الحرب محلية في أطرافها وأهدافها توقيتها ولكنها ليست كذلك في مجملها.
تبدو السعودية وراء قرارات البنك وهي الداعم الأول له وللحكومة بقروض ذات فوائد عالية والتي تُسمّى “الوديعة”، وهي تستخدم اليوم ورقة البنك لتحقيق أهدافها المرحلية مع الحوثي مثلما استخدمت ورقة الجيش والمقاومة من قبل في فتح هذه الجبهة أو تلك بما يتماشى والأهداف الأنية حينها، والدافع والأهداف من وراء التحرك الاقتصادي هو الضغط على الحوثيين للمضي قدما في اتفاق المفاوضات بينهما والذي تم التوصل إليه قبل أحداث ٧ أكتوبر في غزة وكانت التسريبات تشير إلى أنه سيتم إعلانه مطلع العام الجاري لكن تلك الأحداث وتدخل الحوثيين فيها عبر الهجمات ضد السفن في البحر الأحمر وضع الاتفاق في ثلاجة التبريد.
المعلومات الشحيحة المتاحة تقول إن الحوثيين لم يعودوا متحمسين للمضي في ذلك الاتفاق لأنهم يريدون إضافة مكاسب أخرى إليه جراء أعمالهم في البحر وهذا ما لا تريده السعودية المتحمسة لتسوية معهم، ومن هنا يأتي ضغطها الاقتصادي عليهم وهذا ما يُفسّر اتهامهم لها بالوقوف وراء قرارات البنك وهي التي كانت تعتقد أن إدارة المعركة باسم البنك وبأهداف ذات مصلحة وطنية يجعلها بعيدة عنها.
المشكلة الأخرى بالنسبة للسعودية أن أمريكا ترفض المضي في ذلك الاتفاق بسبب هجمات الحوثيين ويتركز اعتراضها على الجزء الخاص بدفع رواتب الموظفين العسكريين الذين عمل الحوثيين على استبدال الكثير منهم بأفرادهم وجند آلاف آخرين وواشنطن تعتبر تسليم الرواتب التي يُقال إن الرياض تعهدت بدفعها لمدة ستة أشهر، مكافأة على أفعالهم ضد الملاحة البحرية، وهنا تواجه السعودية مشكلتين الأولى أن الحوثي يريد مكاسب أخرى لتلك التي جناها في الاتفاق والثانية أنه حتى لو وافق على الذهاب بما تم الاتفاق عليه، فأمريكا لا تقبل ومن الطبيعي ألا تكون هناك تسوية بدون رضاها.
من الواضح أن حماسة البنك وإعلانه البقاء في حالة انعقاد لمواجهة إجراءات الحوثيين وإصراره على تنفيذ قرارته من خلال التمسك بالمُهل الزمنية التي أُعطيت للبنوك، تعكس الدعم السعودي لتحقيق الضغط المطلوب الذي يتقاطع مع الأهداف الاقتصادية المحلية في هذا الجانب، ولا يُمكن تصوّر المضي بذلك بدونها وهي التي تمد الحكومة بأسباب الحياة من خلال تمويل العجز المالي ودفع رواتب مسؤوليها وجيش موظفيها في الخارج مما يسمّى “الوديعة”.
ولا ننسى أيضا أن أمريكا هي الداعم الدولي للبنك المركزي بحكم تأثيرها على البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وهذه المؤسسات المالية العالمية لا غنى لأي بنك حكومي عنها، وبدونها لما استطاع البنك استعادة خدمة “سويفت” الخاصة بالتحويلات البنكية بين البنوك المحلية والخارجية والتي هي ضرورية للغاية، وهذا الدعم مرتبط بقيام الحكومة والبنك بإصلاحات وصفها السفير الأمريكي لدى اليمن بالصعبة وهي تتعلق بمكافحة غسيل الأموال ووضع النظام المصرفي المحلي تحت رقابة البنك والتزام الشفافية وكذلك إنهاء الانقسام النقدي، وهذا الأخير لن يكون سهلا بغض النظر عن المدى الذي قد ينجح البنك في الوصول إليه عبر إجراءاته ذلك أنه مرتبط بالحل السياسي أكثر من أي شيء آخر أو هزيمة الحوثيين عسكريا.
الخلاصة أنه لا يمكن إغفال البُعد السياسي في هذه المعركة وثمة تقاطع مصالح بين السعودية وأمريكا والحكومة اليمنية لتنفيذ القرارات الاقتصادية ولكل طرف أهدافه، والمهم أن يتحمل الجميع مسؤولية الذهاب للأخير وألا تتكرر التسويات المعتادة وتتوقف المعركة في المنتصف بعدما يكون المواطن اليمني قد دفع ثمنها من قوته كما كان يدفع ثمنها من دمه وتكون النتيجة تسوية تحقق رضى الحوثي قبل غيره وثمة خشية من أن تكون التسوية بلغة البنادق.