تأتي الذكرى الـ ٣٤ لإعلان قيام الوحدة اليمنية في ٢٢ مايو ١٩٩٠م، واليمن في وضع أكثر بؤساً وتشظّياً اليوم أكثر من أي وقت مضى، بفعل تداعيات انقلاب مليشيات الحوثي المدعومة إيرانيّاً على الدولة اليمنية في ٢١ سبتمبر ٢٠١٤م، ومآلات تسع سنوات من حرب بلا أفق في ظل ضعف الشرعية، وتواطؤ الإقليم لإبقاء اليمن رهناً لكل هذا الضعف والانقسام والتشظي.
يبرز اليوم مجدداً سؤال الوحدة ومآلاتها في ظل وضع كهذا، تسعى فيه بعض الأطراف المدعومة خارجياً نحو تحقيق أهداف من خارج إجماع القوى الوطنية، ومن خارج مسار العمل الوطني العام، ظناً منها أن الوقت حان للانفراد بتحقيق مشروعها الانفصالي الموعود والمزعوم، وهو مشروع قادم من خارج نسق الوطنية اليمنية التاريخي، التي كان من أهم دوافعها لثورتي ٢٦ سبتمبر ١٩٦٢ و١٤ أكتوبر ١٩٦٣م، السعيُ لتحقيق وحدة اليمن، وتشكيل هويتها الوطنية لتنسجم مع هويتها التاريخية والثقافية.
إن مشروع الانفصال اليوم، وهو مشروع فقدَ كل مبررات بقائه ووجوده في ظل ما آلت إليه الأوضاع اليمنية، وما باتت تحتله ما تُسمي نفسها بالنخبة الجنوبية من مواقع متقدمة في قلب الشرعية اليمنية، التي تكاد تكون اليوم خالصة من أبناء مناطق جنوب اليمن، عدا عن ما باتوا يفرضونه من وجود فعلي على الأرض كحاكمين ومسيّرين لشؤون هذه المناطق، في عدن وما جاورها من مدن يمنية تعاني فشلا ذريعاً في تقديم خدمات للمواطن اليمني.
إن مشروع الانفصال اليوم، بات مشروعاً في العراء، وبات أصحاب هذا المشروع الذين يتربعون على كراسي متقدمة في الدولة اليمنية، باتوا أكثر انكشافا وفشلاً في أداء مهامهم وواجباتهم التي أدَّوا من أجلها اليمين الدستورية، ولكنهم ماضون في أداء دور يتنافى مع مواقعهم الرسمية في ظل مؤسسات الدولة اليمنية المعترف بها دولياً كممثل لليمنيين ومصالحهم أمام العالم، ويأبون إلا أن يؤدوا دوراً لا ينسجم مع أبسط القيم والمعايير الوظيفية فضلا عن الوطنية.
إن أصحاب مشروع الانفصال اليوم، بعد كل هذا الفشل الذي ظهروا به، أصبحوا أمام الشارع العام منكشفين، وأصبح مشروعهم مجرد ستار للممارسة الانتهازية السياسية والفساد، والنهب المنظم لمؤسسات الدولة التي يحملون جنسيتها وجواز سفرها، ويمسكون بزمام مؤسساتها الوظيفية والسيادية، وينعمون بامتيازات خزينتها، ويعملون ضدها بكل تبجح للأسف الشديد.
والكارثة الكبرى اليوم، أن كل هذه الأعمال لا تنبع من ضمير وطني حقيقي يعمل لمشروع الانفصال الموعود به من قبلهم، بقدر ما تأتي إرضاءً لطرف خارجي يموّل مشروع تقسيم وتجزئة اليمن وتفكيكها، ظناً منهم أنهم سينجون من مآلات مثل هذا المشروع التدميري، ليس لليمن فحسب وإنما للمنطقة العربية كلها، لما تحمله هذه المنطقة من بذور تفكك جهوية ومذهبية ومناطقية في داخلها، فضلا عن هشاشة فكرة الدولة وعدم تجذرها في هذه الرقعة الجغرافية من العالم.
لكن قبل هذا كله، ما كان لأصحاب هذه المشاريع اللاوطنية أن ينتعشوا لولا ضعف أداء قيادة الشرعية اليمنية، وتسليمها كلَّ أدواتها وأوراقها لأطراف خارجية وإقليمية تحمل اسم التحالف العربي، وهو الذي لم يقم بأكثر من إضعاف الشرعية اليمنية وتفكيكها، وتفكيك القوى اليمنية بالطريقة التي نراها اليوم؛ حيث أُزيح الرئيس الشرعي عبد ربه منصور هادي، وجيء بمجلس قيادة من ٨ أعضاء، ما مكّن عوامل الضعف من نهش بنية الشرعية الضعيفة أصلا.
إن هذه اللحظة اليمنية، تفتقر لقيادة سياسية وطنية قادرة على مواجهة كل هذه العبث ولملمة المشهد اليمني وإعادة الروح لمؤسسات الدولة اليمنية الشرعية المعترف بها، والتي تم العبث بها، وهذه المهمة اليوم منوطة بنخب وطنية غير متورطة بالعبث الحاصل منذ بداية هذه الحرب. هذه النخب التي ظلت تراقب من بعيد باتت مسؤولياتها اليوم مضاعفة أكثر من أي وقت مضى، فليس من الوطنية والشرف أن تظل هذه النخب تراقب كل هذا العبث الذي يتم في مؤسسات الدولة ومقدراتها، لأن استمرار مثل هذا العبث نتيجته واضحة تماماً، وهي لا تخدم سوى تقوية مشروع دولة الإمامة الحوثية، التي تحتل العاصمة صنعاء.
وكل من يعمل اليوم على حرف مسار القضية اليمنية، ويعيق استعادة مؤسسات الدولة وشرعيتها، فهو حتماً لا يخدم سوى مشروع جماعة الحوثي المحتلة للعاصمة صنعاء؛ وسواء كان ذلك بقصد أو دون قصد فالنتيجة واحدة، وهي خدمة أهداف جماعة الحوثي ومليشياتها، التي هي المشروع الانفصالي الأول في المشهد اليمني، وكل من يسعى للانفصال فهو يقدم لهذه الجماعة خدمة واضحة لغسل جرائمها، وفي مقدمتها جريمة الانفصال القائمة اليوم في جزء من جغرافية اليمن، وإعلان وممارسة نظام وسلطة سياسية طائفية غيّرت كل شيء، من مناهج التعليم إلى الخطب والمنابر والعملة، وطريقة الحكم التي ترتكز على استئثار هذه الجماعة بكل مقدرات الكتلة السكانية الواقعة تحت حكمها، وحرمانها من أبسط حقوقها وحرياتها.
أما من يدعون إلى الانفصال تحت مبرر الإقصاء لهم ونهب مقدرات الجنوب، فإن جردة حساب بسيطة اليوم ستُظهر أنهم أكثر فساداً وخراباً من نظام صالح نفسه، فكل الأقاويل والشائعات التي كانت تُقال عن نهب أراضي الجنوب ومقدراته بدا حتى اللحظة أنها مجرد كذبة كبرى، ولم يصح منها شيء، والسبب ببساطة أن الشعب اليوم يطالب بالكشف عن كل تلك المنهوبات من أراضٍ وعقارات، وإرجاعها إلى مؤسسات الدولة، ولكن لا شيء تحقق من ذلك؛ بل إن الذي تحقق هو العكس تماماً.. مزيد من النهب تحت لافتة الانفصال، واستعادة دولة الجنوب المزعومة.
إن مسألة الوحدة والانفصال هذه مسألة سياسية يمكن إخضاعها للنقاش العام وبوجود إرادة سياسية وطنية جامعة، وهذه غير متحققة حالياً في ظل الانقلاب الحاصل والحرب، وفي ظل مصادرة الإرادة الوطنية اليمنية، وكل هذا يدفع العقلاء إلى مزيد من التروي والتعقل لعبور هذه اللحظة التي لن يؤدي أي خطأ فيها إلا إلى مزيد من الفوضى والانفلات، واستدامة الحرب وتفكك الجغرافيا اليمنية المفككة أصلا، والمرشحة اليوم لمزيد من التفكك في ظل تمادي البعض في تنفيذ أجندات غير وطنية، كمشروع الانفصال الذي هو بوابة كل المشاريع غير الوطنية في اليمن، والذي ينتظره مشهد انفصالي سيقود جنوب اليمن إلى ما قبل ٣٠ من نوفمبر ١٩٦٧، وإلى عودة دويلات ومشيخات السلاطين جنوباً وشرقاً.
وختاماً، إن مسألة الوحدة أو الانفصال اليوم بقدر ما هي قضية وطنية يمنية بحته، فإنها – وخاصة قضية الانفصال- أصبحت قضية دولية أيضا، باعتبار أن العالم اليوم مجمع على عدم الاعتراف بأي كيانات انفصالية، لما يمثله ذلك من تهديد لحالة السلم الدولي، وتفكيك الدول، وجر العالم إلى صراعات لا تنتهي، وأن الحل اليوم هو في قيام دولة العدالة والمساواة لكل الناس، لأن المدخل الانفصالي لن يتوقف عند حدود الدولة الواحدة، وإنما سيقود العالم إلى انفصالات لا حدود ولا نهاية لها، وهو ما سيدخل العالم في مزيد من الحروب والصراعات التي لا تنتهي، وهو ما جعل العالم يُجمع على تجريم أي فكرة انفصالية حتى الآن.
*نشر أولاً في مدونة العرب