كتابات خاصة

الأنــة الأولــى!!

بلال الطيب

كان «الأئمة الزيود» يأخذون الزكاة من سكان «اليمن الأعلى» بموجب ما حدده الشرع، تزيد أحياناً تحت مسمى ضريبي، في حال نشبت حرب ما؛ وتنقص أو تلغى في حال أرادت القبائل الشديدة الولاء لـ«الإمامة» ذلك؛ بمبررات واهية، تتصل غالباً بما تجود به السماء؛ وكان يطلق على هؤلاء المَعفـيـين: «أنصـار» لا «رعايا».
كان «الأئمة الزيود» يأخذون الزكاة من سكان «اليمن الأعلى» بموجب ما حدده الشرع، تزيد أحياناً تحت مسمى ضريبي، في حال نشبت حرب ما؛ وتنقص أو تلغى في حال أرادت القبائل الشديدة الولاء لـ«الإمامة» ذلك؛ بمبررات واهية، تتصل غالباً بما تجود به السماء؛ وكان يطلق على هؤلاء المَعفـيـين: «أنصـار» لا «رعايا».
حين أمتد نفوذ «الإمامة الزيدية» إلى «اليمن الأسفل»، في عهد «المؤيد بالله» محمد بن القاسم، صارت الزكاة هي كل الإسلام؛ أفتى ذات الإمام بأخذها لثلاث سنوات قادمة، تحت مُسمى «واجبات المستقبل»؛ أما أخوه «المتوكل» إسماعيل فقد أجاز هو الآخر نهب أموال «الشوافع»، وجعل أراضيهم خراجية حكمها كحكم أراضي «خيبر»، وحين أرسل إليه أحد عماله يسأله: «هل يؤاخذنا الله فيما فعلناه بحق هؤلاء..؟!»، كان جوابه: «لا يؤاخذني الله إلا فيما ابقيته لهم!!».

كانت الزكاة تؤخذ من سكان «اليمن الأسفل» ارتجالاً وبـ«التخمين»؛ وغالباً ما كانت تعصف بأكثر من ثلثي المحصول، وأحياناً كُله؛ ومع مرور الوقت امتدت أيادي العسكر لنهب ما يدخره الرعية للمستقبل، تحت مسمى «زكاة المُعجل»؛ وامتدت أيضاً لنهب بقايا الحصاد، وحرمت المواشي من الأعلاف، تحت مسمى «زكاة المُؤجل»؛ وما تم جمعه يخزن في مخازن الإمام ومدافنه الخاصة، دون أن يتم توزيعه على مصارف الزكاة المعروفة، المنصوص عليها في كتاب الله.

غير الزكاة، أوجد الأئمة مطالب ضريبية ما أنزل الله بها من سلطان، وبمسميات مختلفة: «مطلب التنباق، ومطلب الرباح، ومطلب الرصاص والبارود، ومطلب سفرة الوالي، ومطلب العيد، ومطلب الجمعة»، أضف إلى ذلك «مطلب الصلاة»، حيث كان العساكر يلاحقون تاركي الصلاة؛ ويفرضون عليهم عقوبات مالية، حتى الملتزمين بها لم يسلموا من ذلك؛ ألزموا بدفع مبلغ مالي لإمام المسجد «الهاشمي»؛ وفي المناطق الريفية كان «التلم العاشر» في «الجربة» له.

العلامة المُجدد ابن الأمير الصنعاني أشار إلى ذلك الظلم الفادح بقصيدة زاجره، هي في الأصل مُرسلة للإمام الطاغية الحسين بن القاسم، نقتطف منها:

فيا عصبة من هاشم قاسمية

إلى كم ترون الجور إحدى المفاخر

يفديكم ابليس حين يراكم

يقول: بكم والله قرت نواظري

خراجية صيرتم الأرض هذه

وضمنتم الأعشار شر المعاشر

ملأتم بلاد الله جوراً وجئتم

بما سودت به وجوه الدفاتر

العلامة المجدد محمد الشوكاني، هو الآخر سعى جاهداً لمواجهة هذا الاعتساف والظلم، وتوسط عند أئمة عصرة لرفعه، وحين باءت جميع محاولاته بالفشل، كتب رسالة «الدواء العاجل في دفع العدو الصائل»، أكد فيها أن مصدر الخلل يتمثل بعدول أولي الأمر عن القيام بوظائفهم الأساسية من حفظ شرع الله، وإقامته بين الناس، واستغلالهم لمناصبهم الإدارية في خدمة أغراضهم الشخصية.

قَسَّم «الشوكاني» المجتمع اليمني إلى ثلاثة أقسام: رعايا يأتمرون بأمر الدولة «الشوافع»، ورعايا خارجون عن سلطان الدولة «الزيود»، وسكان المُدن، وبيّن أن المسؤولية في كل ولاية انحصرت في: «عامل، وكاتب، وقاض»، ثم شنَّ هجومه على ثلاثتهم، فالعامل ـ حد وصفه ـ لا عمل له إلا استخراج الأموال من أيدي الرعية بالحق والباطل، والكاتب شريكه في كل شيء، أما القاضي فهو جاهل بالشرع، وبأحكام القضاء، لا يدفع الظلم عن الرعية، ولا يأخذ بيد الظالم، وأن جل همه جمع الأموال من الخصوم، والدفاع عن منصبه ببعضها.

الأئمة من بيت «حميد الدين» لم يحيدوا قيد أنملة عن نهج أسلافهم، بل فاقوهم بابتكار أساليب أكثر انحطاطاً، مبتدأها «التنافيذ» التعسفية، وخاتمتها «الخطاط» الإجباري، ويقصد بالأخير أن العساكر كانوا يحطون رحالهم في منازل الرعية، ويتصرفون في الأموال والممتلكات وكأنها ملكهم، وهم في الأصل أرسلهم الإمام لإخضاع احدى القبائل المُتمردة، دون أن يمدهم بالمؤن اللازمة، والتي غالباً ما تكون من مهام القبائل المجاورة؛ التي لا ذنب لها، إلا أن القدر وضعها في طريقهم.

أما «التنافيذ» فتعني الأوامر المُطلقة من الإمام إلى العمال في إنفاذ العساكر على الرعية، وله أنواع، «الاحتساب»، و«التخمين»، و«القبض»، في الحالة الأولى يشجع العامل بعض أشرار الرعية لـ «الاحتساب» على الشيخ الفلاني، بدعوى أنه لم يُسلم حقوق بيت المال للسنة الفلانية؛ وما هي إلا أيام حتى يأتيه العساكر من كل حدب وصوب.

 أما «التخمين» فالمقصود به «تخمين» غلة السنة، حيث يخرج «المُخمن» وبصحبته عشرات العساكر، وإذا طغى في تقدير المبالغ المطلوبة، عُزز بآخر ويسمى «الكاشف»، وإذا قرر الثاني ما قرره الأول، عُزز بـ «كاشف الكاشف»، وبالنسبة لـ «القبض» أو «القباضين»، فهم من يكلفهم العامل بتحصيل الضرائب السالف ذكرها، وما على الرعية المساكين وفي جميع الحالات إلا توفير الإعاشة اللازمة، ودفع الأجرة المضاعفة.

ولإيضاح الصورة أكثر، أترككم مع هذه المقتطفات من قصيدة طويلة لأحد الشعراء «الشوافع»، هي في الأصل مرسلة للإمام الطاغية أحمد يحيى حميد الدين:

بلغوا عنا امير المؤمنين

أن هذا الظلم آذى المسلمين

ترك الامة في أمر مهين

ما جرى منا ألسنا مسلمين

أولاً يستلمون العاشرة

وهي في التخمين ضربة جائرة

وعوائدها عليها دائرة

والرعايا من عناياها ذاهلين

بعد هذا طلبوا ثلث البدل

ازعجوا الناس بسهل وجبل

سلموا فوراً بغاية العجل

وهم إذ ذاك قهراً باكئين

دمغة باسم إعانة حربية

والغني المثري بحاجة ربية

والذي قد كان يملك جنبية

باعها واعتاض عنها بالسكين

وزكاة الفطر يبغوها فلوس

قدرها أضعاف أضعاف النفوس

غمر الناس بها هم وبؤس

فتراهم كالسكاري حائرين

وإذا راجعت أهانوا جانبي

أهون الشتم لنا: يا ناصبي

ما درينا ما السبب يا صاحبي

يستحلون دماء المسلمين

بالعودة إلى أدبيات الثوار الأوائل، نجد أن رفع الظلم عن «الرعية الشوافع» كان البند الأول في سلسلة مطالبهم الاصلاحية التي قدموها للإمام يحيى «1934»، ليستعرضوا بعد ثلاث سنوات ذات الأوجاع والمطالب بصيغة موحدة، وصورة أشمل في رسالتهم الجريئة «الأنـة الأولـى»، وحين ذهب «الزبيري» لتقديمها للإمام يحيى، كان مصيره السجن في جبال «الأهنوم» الموحشة.

مطالب «الأحرار» الإصلاحية، كانت داعية في الاساس إلى المساواة، والعدالة الاجتماعية، وتطبيق شرع الله، لتركز مقترحاتهم الاقتصادية فيما بعد، على إيجاد مصادر أخرى لدخل الدولة، تخفف من حدة الجبايات التعسفية التي اثقلت كاهل الرعية، وهي مطالب للأسف الشديد لم يعرها الأئمة الطغاة أي اهتمام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى