كتابات خاصة

حبلك السري يا ليد (1-3)

معاذ المقطري

أمجد السري، الشاب الذي طوى هذا العام  أوراق العشرين من عمره، لم يغمد قلمه الرشيق قط، حتى وإن كانت الحرب قد حملته على امتشاق بندقيته وجراحه الغائرة!!

لا شيء يعادل السلام الداخلي لجريح موهوب في الحي القديم لمدينة تعز، يدعى أمجد السري!!
فالشاب الذي طوى هذا العام  أوراق العشرين من عمره، لم يغمد قلمه الرشيق قط، حتى وإن كانت الحرب قد حملته على امتشاق بندقيته وجراحه الغائرة!!
بحلول عيد الأضحى القادم سيغني أمجد السري إبتهاجا بمرو عام كامل من عمره الجديد الذي انتزعه من تحت نيران قناصة حوثية كانت تصر على قتله مع تلك العائلة التي هب لإنقاذها على مشارف “وادي الدحي “، نهار عيد الأضحى الماضي..
ثمة خطب كان مشهده يكتثف على متن السيارة التي شاهدها أمجد السري حين توقفت على مشارف وادي الدحي، مع توقف نبض سائقها الذي أخذ ينزف بغزارة متأثرا بطلق ناري أتاه من القناصة الحوثية المتمركزة في شارع غزة.
كان الرعب مخيم على امرأة تجهش بالبكاء الحذر كي لا تفزع طفلها الذي كان يغط بنوم عميق في الكرسي الخلفي للسيارة..
سارع  “السري ” الى إطلاق وابل من نيران بندقيته ليغطي اقتحامه لدائرة الموت الذي أخذ يهيمن على السيارة الـ”خاصة “، وقد نزف قائدها حتى الموت!
في حديثي معه على الماسنجر.. ما زال أمجد السري يتذكر حجم الصعوبة البالغة التي جابهت جهده المضني في إقناع المرأة على مغادرة السيارة مع طفلها الذي تعايش سمعه مع أصوات القذائف وخشيت أن يفزع من نومه في تلك اللحظة..
وللصعوبة التي جابهها السري مكمنيين!!.
الأول أن المرأة ستفارق زوجها الذي فارق الحياة بنيران القناصة الجبانة تلك.. والثاني أنها أمام شاب صغير حمل ملامح ثائر رومانسي قادم من الباب الكبير، أكثر من حمله لملامح مقاتل أشعث أغبر كالذين تشاهدهم على أكثر من مترس وجبهة في المدينة التي خيم عليها شبح الحرب منذ مارس 2015.
كان على الشباب ذي البنطال الجينز إقناع السيدة المرعوبة على الانسحاب مع طفلها من دائرة الموت التي ظن بأنه إقتحمها بفضل غطائه الناري لا بفضل استجابته الكلية للضوء الجميل الذي ما أنفك يومض في أعماقه ويمنحه السلام الداخلي حيال حرب قذرة كهذه..
لقد أومض قلبه في الجحيم المتربص بالمكان، ليمنح الأم وطفلها شراعاً للأمان نزولا عند خطته المجنونة للإنسحاب من السيارة المأتم..
وهو الجحيم الذي ما إن غادرته الأم وطفلها إلى بر الأمان حتى خر أمجد السري صريعاً في لحده المحكم!
كان عليه أن يوجه غطاءه الناري للإنسحاب صوب المترس المحتمل لتمركز القناصة الصامتة في الأعلى.. لكن نيران القناصة المذعورة نهشت جسده من الخلف لتقطع اتصاله بالحبل السري الذي كان قد تدلى به من بطن أمه قبل عقدين من الزمن!
على أن مدينته الحنونة شأن أمه وتراب حيه القديم مدته بالحبل السري الملفوف على جسده الصريع والموصول بإدقان إلى الدراجة النارية التي استخدمها منتشلوه لسحب جسده من اللحد، تحاشياً لغدر القناصة.
يعتقد أمجد السري أن الطريقة التي ولد بها مجددا كانت بشعة، لكن الضوء الذي تعاظم في صدره ليجبره على انقاذ أم في لحظة تأرملها وطفل في لحظة تيتمه، أخذ اليوم  يشعره بالسعادة وراحة العقل الذي نجى من النزيف الدماغي القاتل.
كانت روحه المبعوثة من جديد تلقي بظلالها على ضمائر منتشليه الذين شلحوه أشيائه إنما أوصلوه ورموه في المشفي إلى أن جاء والده مذعوراً صباح اليوم التالي، ليوقع على العملية التي تمكن فيها طبيب ماهر من إزالة نزيفه الدماغي فوق الجافية..
يتمتع أمجد السري برصيد ثوري وإبداعي حافل على الرغم من حداثة سنه.. إذ كان ما يزال في الـ16 من عمره حين سجل حضوره الأستثنائي في ثورة 11 فبراير، وجابه نيران النظام التي ما إن أفلت منها بحلمه الكبير حتى عادت لتنقلب عليه في العشرين من عمره..
في ساحات التغيير والحرية سقل السري أسرار جاذبيته كصوت غنائي جميل وقلم رشيق في الآن نفسه، الأمر الذي مكنه من نسج شبكة واسعة من العلاقات انطلاقاً من تكتل المستقبل الذي انضوى تحت خيمته في ساحة التغيير بصنعاء، قبل أن  يتحول هذا التكتل إلى غرفة مليئة بالنيكوتين يملكها الصديق أحمد دبوان ويتصدرها الرفيق على الشرعبي في ظل أحلام ثورية اخذت تتبدد رويدا رويدا في مرحلة قيل بأنها انتقالة..
كثيراً ما غنى أمجد السري في غرفة النيكوتين هذه وقبلها تكتل المستقبل، وكثيراً ما كتب نصوصاً أدبية تبوح بمخاوفه على حلمه..
في بيته المتواضع في الحي القديم فاق هذا الشاب الموهوب من فراش نعشه مجروفاً بسيل من التهاني التي باركت انتصاره على نزيفه الدماغي وجراح اخرى غائرة في جسده..
“فقدت كل شيء إلاك يا قلم!!” هكذا كتب أمجد في صفحته على “فيسبوك”، ليجدد حضوره في ساحة الحرف التي افتقدناه فيها لاسابيع..
لقد أصرت روحه على البقاء ليروي للأجيال حكاية ما يقرب من عشرين ألف جريح مدتهم مدينة تعز بحبلها السري للنجاة إلى جانب ما يقرب من ثلاثة آلاف شهيد احتضنهم أديم المدينة لتنبت بهم حياة سمردية.!!
في قصة أمجد السري ما يفتح الحديث حول وضع كارثي لملف الجرحى الذي بات وبعض رفاق جرحه مطلعون على الكثير من تفاصيله من خلال رحلتهم  العلاجية في تعز وعدن؟؟..
الشيء الذي سنسبر أغواره في مقالين قادمين..
جرحاك يا ليد!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى