حين انتقل المسلم العربي للعيش في أوروبا في سبعينات القرن الماضي كان يفضل الصمت على أن يبرز هويته الدينية أو العرقية، ثم جاءت فترة الثمانينات فرفع شعار الاندماج في تلك الشعوب وخرج في مظاهرات مناهضة للعنصرية وخاصة مهاجري أفريقيا. حين انتقل المسلم العربي للعيش في أوروبا في سبعينات القرن الماضي كان يفضل الصمت على أن يبرز هويته الدينية أو العرقية، ثم جاءت فترة الثمانينات فرفع شعار الاندماج في تلك الشعوب وخرج في مظاهرات مناهضة للعنصرية وخاصة مهاجري أفريقيا، ثم جاءت فترة التسعينات فبرز الخطاب الإسلامي المنظم هناك بشكل أوضح على إثر انتشار الخطاب نفسه في الوطن العربي.
كان لذلك الخطاب صورتان: الصورة الأولى هي الصورة السلفية كما هي بنسختها العربية شكلا ومضمونا، والصورة الثانية هي الصورة الحداثية شكلا والسلفية -إلى حد ما- مضمونا، فهي حداثية تتكلم لغة البلد بطلاقة وتلبس كأهل البلد أيضا، وتتكلم وتدافع عن إيمانها بوضوح والمهم في ذلك الخطاب أنه يتحدث بثقة عن حقوقه عبر قيم جديدة ارتفع شعارها هناك وهي (التعددية – الحوار بين الأديان – حقوق الأقليات)، وهو سلفيا لأنه لم يكن خطابا حداثيا ناضجا في جذوره بقدر ما كان فقها مؤقتا سموه “فقه الأقليات”، ذلك الفقه الاضطراري الذي يجعل صاحبه يقبل الخطاب الجديد أو المسائل الجديدة تحت ضغط “الاضطرار الأقلياتي” فقط، دون أن يتجاوز مشكلاته بشكل تام.
صحيح أن الاضطرار حالة طبيعية في الفكر الإنساني بشكل عام، ولكنه حالة مؤقتة لا حالة دائمة، وتحويله لحالة دائمة يعني أن يعيش جيل وربما أجيال بصورة دينية مختلفة (مخففة) في تلك البلدان، بينما يعيش آخرون في بلدان إسلامية على كم كبير من القيود والتحريمات (التراثية) التي يرون فيها تضييقا على الحياة، وهنا نكون بصدد نسختين متباعدتين للإسلام.
إن فقه الأقليات الذي وجد له صدى عند المسلمين في أوروبا لم يكن برأيي يمثل الخطاب المطلوب لتجديد الخطاب الإسلامي، بقدر ما يمثل تجميدا لمشكلات كثيرة تتعارض مع قيم الدول الحديثة هناك، فأن يؤمن المسلم هناك بعدم إقامة “حد الردة” في لحظة زمنية ومكان معين، وفي نفس الوقت يؤمن بأنها فكرة من صلب الإسلام يمكن أن تعود في وقت ما، فهذا يعني أنه يخالف قيمة الحرية التي رأت تلك الشعوب أنها تقدمت فيها كثيرا، وستجد في هذا الخطاب تخوفا وقلقا.
أما في فرنسا فالوضع مختلف عن بقية أوروبا، فبسبب قيمة العلمانية التي يرى بعض علمانييها أنها حصرية عليهم وأنها هوية أساسية لشكل الدولة فإن مشكلة القلق أو الرهاب الإسلامي ستكون عندها أكثر من غيرهم، وربما تأخذ المشكلة عندهم شكلا من الصراع القديم الذي كان مع الكنيسة الكاثوليكية، وهذا يفسر لنا ذلك الضجيج الإعلامي الكبير حول حوادث الإرهاب التي وقعت مؤخرا هناك، إذا ما قورنت بحوادث مشابهة في بلدان أوروبية أخرى.
تلك العلمانية المختلفة عن علمانيات أوروبا والتي يسميها بعض منظري العلمانية بـ”العلمانية الصارمة” تمييزا لها عن علمانيات “منفتحة” في بقية أوروبا، ترى في التوسع الإسلامي قلقا وخوفا، برز ذلك من قبل على إثر قضية الحجاب الإسلامي، وبدلا من أن تدفع باتجاه خطاب عقلاني ليبرالي يتبناه المسلمون هناك، أو تذهب للحد من الخطاب الأصولي بوسائل كثيرة، تذهب باتجاه آخر يؤزم الصراع بدرجة أكبر وهو ما يلاحظ من خلال شواهد تكررت مؤخرا من تحميل الإسلام والمسلمين ما يقع هناك من عمليات إرهابية، بهدف الضغط واتخاذ إجراءات ضد مسلمي أوروبا وضد أي هجرات قادمة إليهم، وهي بهذا تزيد المشكلة تأزيما وتعقيدا!!
يقول البروفسور وعالم السياسة الفرنسي أوليفييه روا: “إن إدانة الأصولية في فرنسا سرعان ما انحرف إلى هجوم منظم على المسلمين والإسلام بوجه عام. لقد احتل “الخطر الإسلامي” أغلفة المجلات، هذا العنف المشبوب الذي سماه بعضهم في الآونة الأخيرة “رهاب الإسلام” والذي يصدر عن أوساط متباينة جدا على الصعيد السياسي، يظهر بوضوح أن مسألة الإسلام في فرنسا اليوم هي مسألة شبه وجودية، يبدو الإسلام وكأنه يطعن في هوية البلاد نفسها أو على الأقل في طبيعة مؤسساتها، ما يستدعي التعبئة للدفاع عن القيم الجمهورية وعن العلمانية”.
وفي عدد خاص (الاسلام في فرنسا 2004) نشرت مجلة سيتي التي يديرها إيف شارل رسما كاريكاتوريا لمسلم يدير ظهره للجمهورية، تلك الصورة المبالغ فيها التي تجعل من المسلم خطرا على قيمة الجمهورية ذاتها!! برغم أنه –بحسب أوليفييه روا- لا توجد حتى الآن مدارس خاصة مسلمة بكل معنى الكلمة، وتزخر البلاد اليوم بالفرق الدينية ذات الولاء المسيحي وبالكنائس الإنجيلية من كل جنس ولون بعيدا عن أجران الماء المقدس الكاثوليكية .
هذا هو التفسير الأقرب للمحاولة الإعلامية الكبيرة لصبغ الإسلام ذاته بالإرهاب، والتركيز على أعمال داعش بوصفها إسلامية، والتركيز أيضا على ديانة الإرهابي دون تحديد هوية مرتكبي الجرائم الأخرى، والتسرع في الاتهام قبل التحقق والتأكد من هوية المجرم.
يأتي هذا مع تنامي السياسات اليمينية في أمريكا منذ 2001 والتي تؤمن بما طرحه هننتجتون من صراع بين الحضارات كشكل للصراع القادم في هذا الكوكب.
في رأيي أن الأقليات الإسلامية في أوروبا تحتاج في هذه اللحظة لخطاب أنضج من الخطاب السابق كي تقف على أرض صلبة في صراعها ذلك، كما أن الشعوب العربية والإسلامية بحاجة لمزيد من الوعي حول طبيعة الصراع الدائر اليوم هناك وفي المنطقة العربية، حتى لا يحولوا أنفسهم لمدانين يدفعون باستمرار شبهة الإرهاب عنهم في حين أن اللعبة الدولية في محاربة الإرهاب هي من تسهل وتدفع تلك العلميات وتنفخ من الجماعات الإرهابية إعلاميا كي يسهل لها تحقيق أهدافها في المنطقة.
لقد صارت صورة المسلم عالميا مرتبطة بالإرهاب !! في حين أن الدول التي احتلت ودمرت بلدانا بأكملها، بل وصنعت الأسلحة الفتاكة التي جعلت بعضها “محرما دوليا” وكان الأولى أن يكون التحريم في التصنيع لا في الاستخدام فقط، هذا الدول صارت مصدرة للحرية والديمقراطية لكل العالم !!