اكتشف الأساس، التفاصيل تأتي لاحقا، ذلك أن التيه أحيانا هو الدخول في التفاصيل مع نسيان الجذور، من شأن هذا التيه أن يبعد أكثر عن المنطق، ويبعد أكثر عن الحل، ويقرب أكثر باتجاه الانحياز المحض. اكتشف الأساس، التفاصيل تأتي لاحقا، ذلك أن التيه أحيانا هو الدخول في التفاصيل مع نسيان الجذور، من شأن هذا التيه أن يبعد أكثر عن المنطق، ويبعد أكثر عن الحل، ويقرب أكثر باتجاه الانحياز المحض، وباتجاه العصبية لشيء ما بغض النظر عن مدى صوابيته أو أحقيته!! ومن شأنه أيضا تفريخ العديد من المتشابهين، أولئك الذين يقفون على ما يسمى الحياد في الأزمات الأخلاقية الكبرى!
وهو في المحصلة – أقصد خوض التفاصيل دون استصحاب الأساس – ابتعاد عن العلمية، وغياب تام للمنهج، ووقوع فج في فخ الادعاء، أو فخ الشغل الإعلامي الموجه للعقول الأحادية الضحلة والبدائية التي لم تشتغل على ذاتها لو ساعة من نهار. ولا ريب، فالانشغال بالأعراض دون الأسباب الحقيقية هو إهدار للوقت، وإهدار للجهد، وإهدار للذات في سبيل تعميق المشكلة، وزيادة أعراضها.. والخطأ في تشخيص الأسباب خيانة للحقيقة وللمساعي وللسعاة وللمستقبل!
وبالطبع، وعلى المستوى الإعلامي والثقافي والحراك المجتمعي الحالي – فإن هذا المسلك دوما لذوي الأخلاق الإعلامية التي ليس لها على الواقع من خلاق، ولذا تجدهم حريصون على كل تفصيلة لقراءتها بما يغذي نقصهم الخلقي الحقيقي، وبما يجعل المتصارعين طرفين صراع وطرفي نزاع وطرفي فتنة!! هكذا طرفين بالتساوي دون نظر للبدايات ولا للأسباب الحقيقية والمسوغات.. دوما يكون البادئ أظلم ما دام قد بدأ مسلسل الظلم، أما التسامح مع البادئ أو مساواته مع النتائج فهو اختلال غريب، وعملية عقلية فاسدة.
وبالطبع قد تكون بعض التفاصيل فاقت الأسباب المبدئية نفسها، لكن هذا لا يعطي مبررا للأسباب الرئيسة لتكون أجمل، ولا يعطيها الدفة لتعود عليها، إنه يدينها أكثر، ويري حتى ذوي العمى كم أن الأسباب الرئيسة كانت مريعة، وهذه التفاصيل المخيفة بعض من فروعها، أو ما هي إلا خطيئة من خطايا الأسباب الأساسية التي ولدت عنها كل هذه التفاصيل.
للتفاصيل أهميتها البالغة، إذ هي مكونات الحياة أصلا، ومكونات كل لحظة وفكرة، بيد أن نزعها من سياقاتها هو المشكلة، ومعالجة التفاصيل لابد منه، بيد أن معالجتها دون التنبه لسياقاتها لن يثمر، وغالبا – كما أسلفت – يفاقم ويضر.. وعلى كل فالانطلاق من التفاصيل لللمساواة بين الأفكار والجماعات منهج للتشويه لا للتفكير.. وهو ذات المنهج الذي تعاني منه التفاصيل المشوهة التي يتم انتقادها!! إنها طريقة في النقد – كما يظن أصحابها – تجعلهم مشوهين على ذات النسق، ولكن في مجال النقد حيث لا يتبين التشوه، وحيث يحتفي المنحازين بأثواب ظاهرها العدل والوقوف على ذات المسافة من الجميع!!
الناظر إلى الربيع العربي، وحركات المقاومة والتحرر في ربوع الأوطان المثقلة بالحروب، وحتى حركات الإرهاب والقتل، بإمكانه أن يجد لهذا الموضوع مئات الأمثلة، بل لا يكاد يخلو يوم من مصادفة هكذا تضليل، أو هكذا تشوه.. مع أن الأساس شيء واضح وبين، بيد أن الشيطان يبدو محبا للتفاصيل كجزء من آلياته الذكية في العبث بالجمهور!!