كتابات خاصة

لقاء المقابر

فكرية شحرة

في المقابر يلتقي الغرباء أيضاً وهم يودعون أقرب الناس إليهم.. رأيته هناك شابا يافعا أتى زائرا مثلي؛ إنما تصرفه العجيب لفت انتباهي بقوة، كان يتنقل بين قبرين متباعدين قليلاً وكأنه يحادث كلا منهما على انفراد أو يوصل رسائل بينهما
في المقابر يلتقي الغرباء أيضاً وهم يودعون أقرب الناس إليهم.. رأيته هناك شابا يافعا أتى زائرا مثلي؛ إنما تصرفه العجيب لفت انتباهي بقوة، كان يتنقل بين قبرين متباعدين قليلاً وكأنه يحادث كلا منهما على انفراد أو يوصل رسائل بينهما.. كان يحادثهما منتحبا حينا وهامسا حينا في محاولة لإقناعهما أنه غير سعيد ببقائه حياً أو بموتهما معا وتركه وحيداً.
لم أتمالك نفسي من الاقتراب منه وهو منكفئ على أحد القبرين يبكي بحرارة و هو يلعن صاحب القبر في ألم، كانت فرصة سانحة كي أبتدره بحديث و أظهر بصورة الناصح الواعظ.. قلت له: لقد مات وذهب بخيره وشره والله كفيل بلعنه إن استحق فهل هو قريب لك؟

قال وهو يربت على التراب بحنان: صديقي الذي كان أقرب لي من أمي  وأبي.

همست مواسياً : نعم بعض الأصدقاء يتخلون عنا بالموت ويستحقون اللعنة فعلاً .

فمن ذلك الآخر الذي تبادل بينه وبين صديقك البكاء؟

قال وهو ينهض نحو القبر الآخر وأنا أتبعه برثاء:

-هذا قبر أخي الوحيد.. و ارتمى عليه يجهش بالبكاء وهو يصب لعناته أيضا بوجع اوجع صخور المقبرة ذاتها.

أعطيته قارورة الماء التي بحوزتي كي يشرب ربما تتسلل برودة الماء لحزنه فيهدأ، تناولها بلهفة وجرعها دفعة واحدة وأخذ يتكلم كلاما مبعثرا كأن الماء نقب ثقبا في حلقه فتناثر بوحه المكبوت قال من بين دموعه:

تربينا ثلاثتنا كأخوة، لكن صديقي كان منهم ولم نكن نعي ذلك كثيرا, وحين اجتاحونا بفكرة أنهم أفضل منا وهم أنصار الله و أحفاد نبيه و هم أسياد ونحن عبيد، نفر صديق عمري للجهاد ضدنا وقرر أخي الانطلاق للجهاد ضدهم، وبقيت أنتظر عودتهم غير مصدق أن كل ما قرأناه عن المساواة والحرية والكرامة معا لم يعشش في رأسيهما ولم يصنع شيئا لمستقبلهما.

الآن سأترك هذا الوطن الذي يدفن فيه المستقبل من أجل الماضي فقط جئت كي أودعهما بعد أن قتل كلا منهما في سبيل رأيه ومعتقده.

فهل يوجد في هذا العالم مكانا لا يختلف فيه الناس، ليس فيه احزابا أو شيعا تتقاتل من أجل الله.  

 ليس فيه بشرا يرون أنهم أحق بالحياة ممن سواهم..

هل هناك وطنا يرحل إليه ذوي القلوب المتعبة من حزن الأوطان المتراكم كالمقابر في الصدور..

أريد وطنا يبتسم فيه الصغار ولا يكبرون فيقتلون قرابين في المعارك..

وطن لا يعترف سوى بحرية الإنسان دين وقانون..

أصبح الوطن مقبرة والعائلة مقبرة و الصديق الوفي مقبرة.. فلماذا أبقى؟

ثم نفض ثيابه بسرعة و ذهب وهو يصب لعناته على الوطن كله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى