يكثر بعض باحثي النهضة ورواد التنوير من تكرار تماثل صورة الصراع السياسي والفكري في الحالة الأوروبية في عصورها الوسطى وما تلا ذلك، مع صورة الصراع السياسي والفكري في مجتمعاتنا العربية في الوقت المعاصر، وأنه بناء على ذلك التماثل.
في المقال السابق تحدثت عن “التماثل الزائف” بين المواقف والظواهر والأحداث، وأنه لا يوجد تماثل أو تطابق بوجه كامل بين الأشياء التي تكون بينها العلاقة علاقة تماثل لا هوية، وأن القول باستمرار التماثل فيما ليس متماثلا مغالطة منطقية. في هذا المقال سأتوقف عند قضية فكرية يتضح من خلالها صورة التماثل الزائف والذي يؤدي لتصور وحكم زائفين.
يكثر بعض باحثي النهضة ورواد التنوير من تكرار تماثل صورة الصراع السياسي والفكري في الحالة الأوروبية في عصورها الوسطى وما تلا ذلك، مع صورة الصراع السياسي والفكري في مجتمعاتنا العربية في الوقت المعاصر، وأنه بناء على ذلك التماثل لا بد أن نأخذ بنفس الطرق والحلول التي ناسبت أولئك لأنها ستكون مناسبة لنا أيضا، وبرغم ما في هذا المثال من نقاط شبه قد تجعلنا نستفيد من تجربة الآخر إلا أن الاكتفاء بذلك التماثل الذي لا يقرأ الفروق والاختلافات يوقعنا في التماثل الزائف، ومن ثم الحكم الزائف.
لا أستطيع في مقال واحد أن أحصي أو أدرس تلك الفروق المهمة بين الحالتين ولكني سأكتفي بذكر فارق مهم سيترتب عليه اختلاف في إصدار الحكم المناسب.
يقول دراسو الظاهرتين أولئك أن: هناك صراعات حدثت في أوروبا في قرونها الوسطى وعصر النهضة وما تلاه، كان سببها الاستبداد الديني ويمثلون لذلك بحرب الثلاثين عاما التي وقعت بين عامي ١٦١٨-١٦٤٨ والتي بدأت كصراع ديني بين الكاثوليك والبروتستانت، وهي تماثل صراعاتنا الدينية اليوم بين السنة والشيعة، وأن الحل هو ذاته الذي كان في أوروبا وهو المطالبة والسعي نحو “العلمانية”.
ربما هناك تشابه بين الظاهرتين في بعض زواياها نعم، ولكنه ليس تماثلا، وهذا يجعل من الاكتفاء بدراسة التشابه مغالطة أو زيفا، فلو تأملنا بشكل أدق في دراسة الظاهرتين سنجد أن هناك فروقا قد توضح صورة كل منهما بشكل أدق، فمثلا سنجد أن السلطة الدينية المتمثلة في الكنيسة والبابا كان لها سلطة تفوق -في بعض تاريخها- سلطة الملوك والأمراء، أو تنازع -في أوقات أخرى- الملوك والأمراء في السلطة السياسية، أو تجعل الحاكم السياسي خاضعا لتعميد الكنسية، وقد حكى لنا التاريخ قصة بعض الأمراء الذين اضطروا لمواقف الإهانة أحيانا لأجل تعميد البابا لهم، وهذا يعني أن السلطة الدينية كانت هي من تستخدم السياسة لتثبيت أركانها، أو بتعبير المفكر الفرنسي جان بوبيرو كانت الدولة داخل الدين وكان المطلوب جعل الدين داخل الدولة.
هذا بالنسبة للحالة الأوروبية أما بالنسبة لنا فإننا لو تأملنا حال الصراع عندنا فإننا سنجد على مدار تاريخنا أن السلطة السياسية المستبدة هي من كانت تستخدم الدين لتثبيت حكمها وتوسيع استبدادها وليس العكس، فالساسة هم من يستخدمون رجال دين لتأييد موقف لهم، ولم يكن لرجال الدين أو الفقهاء سلطة قوية توازي سلطة الكنيسة وإن كان لديها بعض السلطة التي استخدمتها ضد مخالفيها، إلا أن الدارس لاستخداماتها سيجد أن للسياسة والأمراء يد في ذلك وإن كانت من وراء حجاب، وهذا يعني بشكل عام أن السياسية استخدمت الدين عندنا، وأن الدين استخدم السياسة في أوروبا.
هذا الفارق يعني ببساطة أن الأوروبي حينها ومن منطلق سياقاته الاجتماعية قد ذهب إلى المناداة بتطبيق العلمانية كحل لتلك الإشكالية، فطالب بفصل سلطة الكنيسة عن السلطة السياسية، وحصر السلطة الدينية في مجالات خاصة فقط، ثم بعد ذلك سعى لتنظيم علاقته مع الحاكم، أما نحن فيفترض -بحسب سياقنا الاجتماعي- أن نتوجه أولا لمقارعة الاستبداد السياسي لتكون معركتنا أولا مع قصقصة أجنحة المستبد السياسي بترسيخ قيمة الديمقراطية حتى تعيها الشعوب وتناضل من أجل تطبيقها، ومن ثم نتوجه إلى مقارعة استبداد المؤسسات الدينية التي تسعى لتقييد حرية الضمير، وهو خلاصة ما تنادي به العلمانية “حرية الضمير”، أو يكون سعينا لكليهما بوقت واحد ولكن مع وضع كل شيء من تلك المطالب في نصابه، وتقدير كل شيء بحجمه، فلا ننشغل عن المعركة الكبيرة بالمعركة التي تليها.
حين نقرأ العلمانية في سياقها الاجتماعي الأوروبي سنجد أنها لم تكن صورة واحدة بل اختلفت من بلد لآخر، وكل ذلك يعود لاختلاف المذهب المسيطر ولاختلاف حالة وشكل الصراع بين السياسي والديني في كل بلد، فهناك بحسب جان بوبيرو -أحد أهم المتخصصين في دراسة العلمانية إن لم يكن الأهم- علمانيات متعددة لا علمانية واحدة، تتخذ كل دولة شكلا مختلفا من بلد إلى آخر، فهناك علمانيات متصالحة مع الدين وعلمانيات متخاصمة معه، فكما أن العلمانية الفرنسية كانت خلاصة صراع طويل ومرير مع الدين المسيحي والكنيسة الكاثوليكية على وجه الخصوص فإن العلمانية في إنجلترا وألمانيا مثلا كانت متصالحة نسبيا مع الدين أو قل مع الفهم المستنير للدين، فالمذهب البروتستانتي السائد في هذين البلدين لم يكن معاديا لروح العصور الحديثة مثل المذهب الكاثوليكي البابوي الروماني السائد في فرنسا، وبالتالي فهناك حيثيات محلية تتحكم بكيفية تشكل العلمانية في كل بلد من البلدان.
ذلك الفارق المهم بين المذهبين الكاثوليكي والبروتستانتي في أوروبا يذهب بنا إلى دراسة الفارق أيضا بين أهم مذهبين إسلاميين (السني والشيعي) فبينما ترتكز السلطة في المذهب السني على “النص” في حالة قريبة من مذهب البروتستانت، نجد أن السلطة في المذهب الشيعي (الإثنى عشري) ترتكز على “الإمام أو الولي الفقيه” في حالة قريبة من مذهب الكاثوليك، فالولي الفقيه له سلطة تشبه إلى حد بعيد سلطة البابا قديما، وهذا يعني أن هز سلطة النص –بهز الدلالة التراثية له- في المذهب السني سيحد من تلك السلطة الدينية التي تكونت مع الأيام ولا أساس حقيقي لها، في حين أن هز السلطة الدينية في المذهب الشيعي يقتضي هز سلطة الإمام أو الولي الفقيه ذاته، تلك السلطة الدخيلة على الفكر الإسلامي بتأثره مما حوله من الثقافات، وهذا الفارق بين المذهبين يجعلني أرجح سهولة ومرونة تطبيق العلمانية في المجتمعات السنية على المجتمعات الشيعية، وسيكون الصراع في المجتمعات الشيعية قريبا من مجتمعات الكاثوليك، بينما سيكون في المجتمعات السنية قريبا من مجتمعات البروتستانت.