واليوم وقد عاودت «الإمامة الزيدية» سيطرتها على أغلب المحافظات اليمنية، بقيادة الإمام «الجعنان» عبد الملك الحوثي، بدأت خلافات الأحرار الجدد تطفوا على السطح، في صورة مشابهة لذلك الماضي غير البعيد، وفي تعز كما في عدن والقاهرة، وجد من يتألم بصمت، ويتبرم بصوت مكدود: «لا سامح الله الإمام»! انحصرت انفعالات «المُستنيرين» في تعز بالمظالم التي تنصب على الرعوي المسكين، أما في صنعاء فإنها لم تتجاوز التضايق من الكبت الفكري القائم، ولهذا فإن حركة الأحرار أول ما نشأت وهي تزخر بالخلافات الفكرية، تبعاً لهذه الانفعالات، غير أن جلال المحاولة الأولى، ورهبة الحكم القاسي، فرض على أعضائها تقبل بعضهم بعضا.
عمل «الزبيري» و«النعمان» على كسر هذه الحواجز، كانا أساس الوحدة الوطنية، حاولا إصلاح النظام من الداخل، تقربا من ولي العهد أحمد، وبقيا في ملازمته، وحين رآهم جازم الحروي، قال لهم: «بدلاً من أن تظلوا تبعثروا أدبكم وأفكاركم في تقديس الحكام، اخرجوا نحو الشعب»، تعذروا له بالمادة وضيق الحال، تكفل بدعمهم، وبالفعل نجح في تهريبهم إلى عدن «1944»، وهناك بدأت المعارضة الفعلية بقيام «حزب الأحرار».
بتحريض إمامي زادت تدخلات الانجليز في شؤون الحزب، وفي ذلك قال أحمد الشامي: «ومضت الأيام ونحن نتناقش ونتجادل، واقترح الزبيري حلاً وسطا، أن نؤجل الجلسات حتى نتأكد أننا نعمل ما نعمل بدافع من أنفسنا، وبوحي من ضمائرنا، لا بأمر الوالي، وكادت الأمور تعود إلى مجراها الطبيعي، لولا أن فجّر زيد الموشكي المشاكل الإدارية»، وهكذا دبَّ الخلاف، وآثر «الموشكي» و«الشامي» العودة الى أحضان الإمام.
مع نهاية الحرب العالمية الثانية، سمح الانجليز بتأسيس «الجمعية اليمانية الكبرى»، بعد أن زال الخوف من تحالف الإمام يحيى مع الطليان، دُعمت «الجمعية» بمطبعة حديثة، بذل جازم الحروي وتجار تعز الأموال الطائلة في سبيل شرائها وتشغيلها، وصدرت عنها صحيفة «صوت اليمن».
التحق سيف الحق إبراهيم بركب الأحرار، التف حوله المغرضون، ساءهم تسجيل «النعمان» لأصول «الجمعية» باسمه، اتهموه بالتحكم بها وبأموالها، رد عليهم الأمير: «بالله عليكم، لو لم يكن نعمان في عدن، وله مكانته عند أهل بلده، هل كان أحد يقوم مقامه، من الذي سيستقبلنا ويهيئ وسائل العمل لنشر القضية»، وزاد على ذلك: «لا سامح الله الإمام، الذي وضعنا في مثل هذا الموقف».
صارحهم «النعمان» حينها بأن تجار تعز هم دعامة الأحرار، ولولاهم ما كانت هناك «جمعية»، وثقوا به، وأرسلوا إليه الأموال، بعد أن تعهد بأن لا يذكر اسماءهم، حتى لا يطالهم وذويهم عقاب الإمام، الذي كان يأخذ البريء بالمذنب، والمقيم بالهارب. مصارحة صادقة، لكنها لم تخرس ألسنة السوء، بل توالت الاتهامات، وكادت أن تعصف بكيان الأحرار المُستجد.
قام الأحرار بثورتهم الدستورية «فبراير1948»، كانت تلك الخلافات أحد أسباب فشلها، سيق المُخلصون إلى ساحات الإعدام، وغياهب السجون، وكان الثائر «الموشكي» ضمن قائمة الـ«37» الذين أعدموا، أما «الشامي» فقد حبس لخمس سنوات، ولا تهمة له؛ إلا أنهم وجدوا «المُيثاق المقدس» مكتوباً بخط يده، بعد أن ورطه أحدهم، خوفاً من تقلباته؛ أما سيف الحق ابراهيم فقد مات مسموماً قبل أن ينتصف ذلك العام.
«اليمنيون يصابون بالفشل بعد الهزيمة، ويصبون اللعنات على رؤوس المهزومين، هذه هي طبيعة البشر، حينما ينتصر الإنسان ولو كان على باطل يهادنونه، وحينما ينتكس ولو كان محقاً يلعنونه»، قالها «النعمان» متحسراً حين رأى أمامه حشد كبير من «الشامتين، والمتساقطين»؛ وزادت حسرته أكثر حين رأى الشيخ القوسي ـ أحد الأحرار ـ يُلقى القبض عليه.
توالى بعد ذلك مسلسل السقوط، وبدأ «اللاوطنيون» بالتقرب من الإمام أحمد، وكعربون لولائهم أهدوه مطبعة «صوت اليمن»، وهكذا صارت المطبعة التي كانت تناصر الشعب والقضية، تسبح بمجد الطاغية، وصدرت عنها صحيفة «النصر»، النصر على الأحرار؛ فأثار فيها أولئك «المتساقطون» موضوع «مال القضية»، ووجهوا اتهاماتهم لـ«النعمان» تلميحاً لا تصريحاً، وقرروا أنها «120,000» جنيه استرليني، مودعة في أحد البنوك باسمه.
أرسل الإمام أحمد برقية مُستعجلة إلى «النعمان» يسأله فيها عن ذلك المال، فأرسل الأخير لصديقه «البدر»: «قل لأبيك أن الجمعية لا مال لها»، وحين حاول المُحقق المُكلف مساومته، رد عليه: «والله لن تجدوا مني شيئاً غير ما كتبت، ولن أضحي بمخلوق أبداً، لقد كنا نعيش على صدقة الناس؛ فهل تراني أضحي بمن أحسنوا إلينا، إنني مستعد الآن للمشنقة».
مع منتصف العام «1955»، احتضنت القاهرة «الزبيري» و«النعمان»، عاودت «صوت اليمن» الصدور، وفتحت «صوت العرب» أبوابها للزعيمين، القى فيها «النعمان» خطاباً رد فيه على تلك الاتهامات، قال فيه: «لقد كنا نسمع الإشاعات من المغرضين، ونعرف كثيراً من همسات المترددين، عن الأرقام الخيالية، والمال الغزير، ونسمع التهم التي تلصق بنا، فلا نهتم لذلك، لأننا لأجل اليمن، وفي سبيل محنتها ونكبتها، نرضى أن نضحي حتى بسمعتنا».
سحبت السلطات المصرية تصريح «صوت اليمن»، وأغلقت «صوت العرب» أبوابها في وجه الأحرار، بفعل التقارب الذي حدث بين جمال عبدالناصر والإمام أحمد «أبريل1956»، عاد المتذبذبون لضلالهم القديم، بدأوا بشن حملاتهم المسعورة على «الزبيري» و«النعمان»؛ أصدر محسن العيني كتاب «معارك ومؤامرات ضد اليمن»، دافع فيه عن الزعيمين، وقال فيه: «لولا هذان الاسمان ما عرفنا الوطن والوطنية».
كما سارع «الزبيري» بإصدار كتاب «نعمان الصانع الأول لقضية الأحرار»، تحدث فيه عن حقيقة الإخاء الثابتة بينهما، وأنها ليست قائمة على العاطفة أو المنفعة، بدليل صمودها وسط الأعاصير والأهوال والدماء، وأضاف: «فلتسترح الإشاعات، ولتهدأ، ولتنصرف إلى ضروب أخرى من ألوان الدس والكيد».
وفي شوارع القاهرة المزدحمة، شوهد الرجلان، وهما يعيشان مع الشعب، يأكلان «الفول» و«الطعمية»؛ ويركبان «الأوتوبيس»، وحين مرَّ من جانبهم صديقهم القديم أحمد الشامي «سفير الإمام»، أنزل زجاج سيارته الفارهة، وخاطبهم بلكنة دارجة ساخرة: «هيا عيشوا مع الشعب»!!.
طغت العصبيات الحزبية على البقية الباقية من الأحرار، سعى الوشاة كعادتهم للتفريق بين ثنائي الوطن الوطنية، يقول «النعمان»: «عندما أثر الضرب على وتر التفريق، لم يواجهني الزبيري، بل كان ينسحب وينطوي، وهنا بدأ الانشقاق، صحيح أن الخلاف لم يعلن، إلا أن الناس كانوا يعلمون أن الزبيري في اتجاه، وأنا في اتجاه آخر، وكانت الجناية جناية الطلاب الحزبيين».
وعبر عن ذلك شعراً:
وتمزق الأحرار شر ممزق
يتبادلون الشك بالأقلام
وتفرقوا شيعاً فكل جماعة
سبقت إلى صنم من الأصنام
فبلاد يعرب أصلها وثنية
أوثانها أربت على الأغنام
واليوم بالأحزاب تزخر أرضها
شراً من الأنصاب والأزلام
لم يدم الوفاق بين الإمام أحمد وعبدالناصر طويلاً؛ اختلفا، فتح الأخير وسائل الإعلام المصرية لأصوات المعارضة اليمنية، بدون «الزبيري» و«النعمان»؛ وبدأ هؤلاء بالتهكم على الأحرار، متهمين اسلوبهم بالرجعي، وبأن التيارات القومية هي الخيار البديل، وفي القاهرة كما في عدن، وجد من يقول بهمسات خافتة: «لا سامح الله الإمام».
واليوم وقد عاودت «الإمامة الزيدية» سيطرتها على أغلب المحافظات اليمنية، بقيادة الإمام «الجعنان» عبد الملك الحوثي، بدأت خلافات الأحرار الجدد تطفوا على السطح، في صورة مشابهة لذلك الماضي غير البعيد، وفي تعز كما في عدن والقاهرة، وجد من يتألم بصمت، ويتبرم بصوت مكدود: «لا سامح الله الإمام»!