تفنن الناس في تحسين صالات الانتظار.. تلفزيون.. مجلات.. قصص.. ألعاب للأطفال.. كراسي مريحة.. جو مكيف.. وهلم جرا، ولكن هل كل هذا جعل الانتظار شيء محبب لأحدنا؟!
تفنن الناس في تحسين صالات الانتظار.. تلفزيون.. مجلات.. قصص.. ألعاب للأطفال.. كراسي مريحة.. جو مكيف.. وهلم جرا، ولكن هل كل هذا جعل الانتظار شيء محبب لأحدنا؟!
الكثير منا يكره زيارة الأطباء والمدراء والسفر بالطائرة لعدة أسباب، من أهمها الانتظار.
الانتظار حبسٌ للأنفاس، فلا هو شهيق ولا هو زفير.. إنّه نقطة ينعدم فيها الزمان والمكان بالنسبة لنا.. فالزمان والمكان يعتمدان في حساباتنا على تقدمنا نحو الإنجاز الذي نريد بينما الانتظار هو (لا إنجاز) في حقيقته.
صحيح يمكن لأحدنا أن يقرأ أو أن يُحدِّث غيره بشيء، لكن يظل ذلك إنجاز غير مجدول.. كما أن جبرية المكان والزمان هو حبس للإنسان ترفضه نفسه..
الصبر ليس انتظاراً إن كان هذا ما يدور بعقلك، فالصبر هو فعل الأسباب وترقب حدوث المراد.. أما الانتظار فهو فقط ترقب دون فعل، وبعض مراحل الصبر قد تبدو انتظار لكنها ليست كذلك، لأنها مجرد (حالة كمون) نجمع فيها المعطيات والنتائج للخطوات السابقة ومن ثم نستعد للتدرج في الخطوات القادمة..
أما الانتظار فهو تجميدٌ لذاتك، تصبح فيه مرهونٌ بما هو آت.. فتصير (مفعول به) بفعل غيرك ومسلوب الإرادة.. إنّه يمنع الإنسان من الحركة بل ومن التفكير الحر.. يمنعه من تذوق العيش بكل أبعاده.
ما أسوأ تلك الأيام التي تنتظر فيها ظهور حبيب اختفى!!، كل يوم تموت ألف موته بين الأمل واليأس، لذا أهالي الاختفاء القسري والمفقودين معاناتهم وأوجاعهم أفظع من أهالي الذين قضوا نحبهم.
ما أثقل وأشد تلك الدقائق تمر وعينيك على الهاتف تنتظر رسالة أو اتصال لأمر يهمك!!
يظل ذهنك مشتت ونفسك معلقة.
يُحدِّثك القابعون في السجون بدون محاكمات وبالاعتقال الإداري أنهم أكثر بُؤساً ممن قد حُكِم عليهم بالمؤبد لأنهم لا يجدون ما يستقرون عليه.
للأسف يوجد منّا من أغرق نفسه في هذه المصيبة مع أن لديه خيار المُضِيّ، تجده شاباً وافر الصحة والحيوية يُضيِّع وقته متسكعاً في المقاهي والمنتديات الواقعية والافتراضية وحين تسأله يقول: “أُضيِّع وقت إلى أن يتوفر عمل”.
بالطبع هو ينتظر الدرجة الوظيفية المقدسة!! معه ألف وسيلة للعمل وكسب الرزق لكن عقله محبوس بانتظار الدرجة المنشودة.. وظيفة مملة ضائعة في الزحام.. ويظل ينتظر لشبر مع الدولة الذي بنظره أفضل من ذراع مع غيرها، ويتناسى أن ذلك الشبر فيه كذا معضلة ستسلبه نفسه واطمئنان ذاته.. هذا لو توفرت الدرجة لأمثاله، وبين الذراع والشبر لم يستطع أن يرى (ميل) شاسع مع نفسه المبدعة.
(بنت الحلال) لا تدرك أنها صارت فقط (عشيقة الليالي)، لقد تعرفت عليه بطريقة ما وتحدَّثا عن كل شيء حتى ظنَّت أنَّهُ النصيب المقسوم فلقد أقنعها بذلك جيداً، وما إن تتيسر كل الأمور سيتقدم لخطبتها ويتزوجا.. وظلت تنتظر.
لكن المؤامرات تتربص بهما.. أخته الكسيحة يجب أن تمشي لكن تعافيها تأخر.. ولا يمكن أن يتقدم قبل أن تتزوج خالته العانس، ومستحيل أن يتحرك دون أن يصالح أباه الطاغوت.. الخ، حكايات وحكايات ووحده الله أعلم بحقيقتها، وتظل هي تنتظر وتذبل كما تذبل زهرة وضعوها في زهرية بلا ماء، وكل يوم تغرق أكثر فأكثر في عواطف محرقة كشخص يموت جوعاً بينما يُحدِّثونه عن أصناف الطعام ولا يجد منه إلا وجع الغبة ولهيب خيبات الأمل.
ليتها تعلم أن المحب الحقيقي لا يطيق البعاد ولو ليوم، إنه يشتعل لمجرد فكرة أن يتأخر لحظة فينالها شخص غيره.
الشعوب تنتظر من حكوماتها العدالة والرشد.. أن يسدوا احتياجاتهم وأن يصلحوا ذات البين وأن يجعلوا المعاش للجميع متقارب الكرامة.. انتظارهم استمر لعقود وعقود ولم تُدرك كثير من الشعوب أن من نجا منها إنَّما كان بالمبادرة لتكوين مؤسسات مجتمع مدني وتنموي شعبي.. وفي النهاية (لا يحك جلدك مثل ظفرك).
أوصانا المصطفى (اغتنم خمساً قبل خمس..)، وأكد: (بادروا بالأعمال سبعا..).
وصية أزلية إذ لا مكان للانتظار في قاموس السعداء، لأن السعداء شلالات والشلال لا يمكنك إيقافه أو حبسه.. إن فطرة التدفق والسعي فينا هي الحياة بذاتها ولا يجوز للأحياء أن يتوقفوا تحت أي مبرر ولا يحق ﻷحد تجميدهم.
وكما قيل أفضل الأمور هي من تأتيك وأنت منهمك في أولويات حياتك.. ﻷنك لو كنت فقط متوقف تنتظرها فلن تصلك إلا بعد أن تستنزفك، فهي في الغالب تصل متأخرة.. وقد لا تأتي حينها تكون قد أهدرت عمرك وفرصك.
إذن لا تنتظر..