كتابات خاصة

العقل الطفل

محمود الحافظي

واحدة من ملامح العقل الطفل الذي نحمله هي طريقة تعاملنا مع الأحداث الخارجية، طريقة نظرنا لنا، محاولة قراءتنا، تفكيكها إلى عناصرها الأولية، ومن ثم البناء عليها.. الانقلاب في تركيا، الحدث الأبرز مؤخرا، أظهر سوءة عقلنا بشكل فج،
واحدة من ملامح العقل الطفل الذي نحمله هي طريقة تعاملنا مع الأحداث الخارجية، طريقة نظرنا لنا، محاولة قراءتنا، تفكيكها إلى عناصرها الأولية، ومن ثم البناء عليها.. الانقلاب في تركيا، الحدث الأبرز مؤخرا، أظهر سوءة عقلنا بشكل فج، وأظن أنه قدمنا إلى ذواتنا مجرد متعصبين انتقاميين ومأزومين على الدوام بادعاء امتلاك الحقيقة والبحث عما يؤكدها ولو من بطن الغباء ذاته!! وهذه الطريقة في التناول والمعالجة جعلت تعاملنا مع الآخرين محكومة إما بالتنازل الكامل أو بالرفض المطلق، ومع النطريات والتطبيقات على أساس ألا خصوصية فإما الوقوع والانسلاخ وإما المحافظة والاندثار!
العقل العلمي يبحث في ذات الموضوع بكل انتباه، يتعامل مع المعلومة بحياد تام، ويحاول التفكيك والتركيب لينتقل إلى استخلاص ما يهمه في إطار المعلومة التي تحصل عليها، وبغيرما تجاوز لها أو للسياق الذي أتت فيه، مستصحبا معه على الدوام ما يعلمه عن الانسان فردا ومجموعة، ومتخففا في نتائجه من قطعيات اليقين بمزيد من الشك المنهجي الذي يرجح ويفاضل، ومتخففا في الوقت ذاته من انحيازاته التي اكتسبها دون وعي، وبغيرما اختيار!

بيد أن العقل العربي – في معظمه ربما – لا يزال يمارس طفولته على الدوام، الكسل والعاطفة الجياشة للمنهزم والميل إلى المبالغ والخرفي، كل هذه تتشابك وتتعاضد بما يجعله غير قادر على التقاط المنهج الذي يحدد به موقفه من كل المتغيرات في الحياة، ولأن المنهج شبه منعدم في الكثير من العقول فإن نتاجاتها تشكو دوما من التناقض الفج، وتفوح منها روائح الغضب والتعصب المستدام، وتساقط منها محاولات جادة لـ ليّ المعلومات والأخبار والشائعات بما يصب في خزان الانحيازات المسبقة، والأحكام الجاهزة اليقينية، بما يعزز دائرة الراحة العقلية، تلك التي تعفيه من عناء الوصول إلى الحقيقة لصالح تأكيدها على الدوام.

الأسئلة الهامة تكمن في البحث عن أسباب الانقلاب، طرائقه، عوامل قوته وضعفه، أسباب تهاويه، تداعياته، دور الشعب، دور المجتمع المدني، دور النخبة، دور النظام الحاكم، دور المؤسسة العسكرية، دور الإعلام، دور الحركات الدينية، دور الدول الأخرى… إلى غير تلك الأسئلة التي بإمكانها أن تعيننا على فهم الذات أكثر، ومحاولة الاستفادة بما يعزز ما ينبغي أخذه وتركه.. لكننا ذهبنا نمارس عادتنا الجهرية القاتلة: الحكم على الانقلاب، والديموقراطية، وأردوغان، والجيش، والعلمانية، والإجراءات، وكل شيء، كل شيء، لم يتبق شيء لم تصدر فيه أحكامنا التي تأكل بعضها بعضا، وتعمق ما بيننا من خلاف بائس وجاهل وعنيد!!!

الأغرب من عقليتنا التي تركت البحث وذهبت تمارس دور الإله والقاضي، هو أن البعض حتى في اختياراته للآخرين لم يستطع التخفف من خنادقه وأغلاله وتشوهاته.. فذهب يختار لهم نقيض ما هو معلوم من الحياة بالضرورة: الاستبداد وحكم العسكر وسقوط التجربة الديموقراطية الرائدة بكل ما حققته من انتصارات في ميادين الاقتصاد والتنمية!! والبعض الآخر ذهب يجلب ما يمكنه من أسواط ليجلد بها ظهور ساكني هذه البقعة الحسيرة التي قد نالها ما يكفي من أهوال، معززا بذلك ما بدأت تظنه من دونيتها الحتمية، ومغلقا أمامها كل إمكانات المواصلة، وملغيا من صفحاتها كل محاولاتها وخطواتها الحقيقية والمدهشة!!

أحاول هنا ألا أكون قاضيا أيضا، ولا جلادا.. فقط مثيرا لنقطة ربما ينبغي التنبه لها أكثر، خصوصا أنها متعلقة بالنبع، وإشكالات النبع تظهر في كل الأشياء، نقصا وانحرافا، ومن ثم تخلفا وتأخرا مستداما!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى