كتابات خاصة

راعي في جبل جرة (13)

أحمد عثمان

كان عمار شابا متوثبا ومتطلعا للشهادة، يتحدث عن الشهداء بغبطة شديدة وكان أحد الشباب الذين يأنس لهم المقاومون ويرون فيه روحا متوهجة تمثل قاعدة النصر. كان عمار شابا متوثبا ومتطلعا للشهادة، يتحدث عن الشهداء بغبطة شديدة وكان أحد الشباب الذين يأنس لهم المقاومون ويرون فيه روحا متوهجة تمثل قاعدة النصر؛ كان يقدم الدعم اللوجستي والخدمات عند هدوء المعارك و يتقدم الصفوف عند اشتدادها.
يتميز بالثقة القصوى والبحث عن الشهادة كأمنية. يقول فؤاد وهو أحد كوادر التوجيه المعنوي بالجبل، عندما قابلت عمارا كان يتحدث عن تأخر حصوله على الشهادة في الوقت الذي يحصل عليها الآخرون بسهولة، ويعدد زملاءه الذين سبقوه بغبطة عالية، متسائلا: لماذا لم نحصل على الشهادة بينما البعض حصل عليها بسهولة؟!
وعندما زار العم عبده سأله الأخير عن حاله، أجاب متحسرا: يا عم عبده لقد سبقني أصحابي وأنا متعثر. 
قال له العم عبده: لا يا بني مش كلكم تذهبون (ويتخذ منكم شهداء)، منكم مش كلكم، الله يحفظكم.. يا عمار أين صاحبك صبري؟ 
عمار: صبري موجود، أنا أعدك أننا أجي أنا وهو غدا بعد ما أنفذ المهمة، هذا إذا لم أتعثر كالعادة وهو يعني إذا لم يفز بالشهادة. 
في اليوم الثاني اخترق عمار وإخوانه خطوط العدو بسياراتهم، كانت الخطوط خطرة والمغامرة صعبة للغاية، اخترقوا خطوط النار لإنقاذ جثة أحد الشهداء وهي حالة تتكرر، بينما يحاول الاعداء أن يتخذوها طعم لاصطياد آخرين، استطاعوا أن يتجاوزوا كثيرا من العوائق وقبل الوصول إلى هدفهم ضربت السيارة بسلاح ثقيل سقط زملاؤه ورمت بهم السيارة إلى الخارج، بينما وقع عمار تحت السيارة وضغطت على الجزء السفلي من جسمه.  
الخطورة أن النار شبت في السيارة وهي تقترب من عمار العالق تحت السيارة، بينما النار تزحف نحو جسده واقتربت منه وهو ينظر بهدوء تام أخذ التلفون واتصل بأبيه ينقل له الخبر الأقرب إلى التبشير بالشهادة كمن يقول وأخيرا فزت ادع لي يا أبي انزعج والده وصاح به:  
–اتصل بقادتك وأصحابك يا عمار لإنقاذك أعطني تلفوناتهم، وبكل هدوء يطلب عمار من أبيه اعطاء التلفون لزوجته عندما سمعت زوجته صوته على الهاتف ومن الجملة الأولى صرخت لااااااا وأخذت تبكي. 
أخذ الوالد التلفون ليترجى مرة أخرى اعطاءه تلفون أصحابه لكنه بهدوء أخبره أن التلفون “تفرمت” وأنه اتصل به من الذاكرة! 
–خلاص استودعك الله يا أبي المهم إنك راضٍ عني. 
كادت النار تصل إليه وما زال هادئاً. 
ولزوجته حكاية غريبة معه، فقد كان دائما ما يعطيها وصيته كشهيد، لكنها في كل مرة تمزقها.. في المرة الأخيرة قال لها خلاص يا حبيبتي أنا سأبشرك بشهادتي ولن يطول الغياب سنلتقي في الفردوس أقرب ما تتصوريين، ولهذا صرخت رافضة البشرى التي أخبرها وكانت تعد هذا نوعا من الخيال .
النار تقترب وتصل إلى جسم عمار وزملاؤه يحاولون إنقاذه، لكنهم يواجهون بقصف مركز كلما اقتربوا من السيارة المكشوفة.
كان العم هائل رجل يقترب من السبعين من عمره وهو حكاية بحد ذاته؛ قدم إلى الجبل في الأيام الأولى لصعود الجبل ميسور الحال ويعمل في التجارة، عندما قدم إلى الجبل أحضر معه عسل وأشياء اخرى وكان يتفقد المقاومين بين الحين والآخر، لكن الملاحظ عدم مفارقته الجبل لقد كان هذا العجوز بروحه المتوثبة شابا مكتمل الصحة والطاقة.
يقول القائد منصور:
كان العم هائل يرفض دوما إلا أن يكون في المقدمة وكان يحب شباب المقاومة ويرعاهم و لعمار مكانة خاصة في نفسه فقد كان عمار شابا متميزاً.
أخبر العم هائل القائد وزملاء عمار بأنه سينقذ عمار بنفسه.
لم يدع مجالا للنقاش قال لهم بحزم احموني ما استطعتم وانطلق العجوز الشاب كالصاروخ نحو عمار لتنهمر عليه الرصاص بالبنادق والرشاشات من كل مكان كانت نجاته مستحيلة، لكنه وصل إلى عمار ووجد النار قد سبقته إلى جسد عمار الذي كان حيا بعد ومحافظا على هدوئه. 
– عم هائل مو جئيت تعمل الله يسامحك. 
لا وقت للحديث عند هائل أخذ يعالج السيارة بقوة حتى أبعدها عن جسد عمار، كانت النار قد أكلت النصف الأسفل لجسد عمار أخذه على كتفه وعاد مسرعا كما بدأ تحت النار ونجا بأعجوبة وبصورة أقرب إلى المعجزة.
كان العم هائل يأمل أن ينقذ عمار الذي مازال حيا وبكامل وعيه ويحاول أن يتحدث مع عمه هائل بأريحيته المعهودة. 
وصل عمار وهائل وزملاؤه إلى المستشفى وباشر المسعفون عملهم لم يطل الأمر حتى جاء الخبر.. عمار شهيدا لينزل الخبر كالصاعقة على زملائه والعم هائل ومن يعرفون هذا الشاب التواق للشهادة. 
قال الأستاذ عبد الله: لقد طار عمار إلى الشهادة ولم يمش إليها كغيره من الأبطال.
عندما وصل العم عبده الذي كان على وعد مع عمار صدم بخبر استشهاده جلس على الأرض يحدث نفسه. قال له الأستاذ عبد الله: عمار خسارة كبيرة مثله لا يعوض. 
قال العم عبده: الله يرحمه أنا أحمد الله على أنني عشت لأرى هؤلاء الشباب، لا تخف أستاذ عبدالله سترى أكثر من عمار، هؤلاء لا يموتون يستودعون أرواحهم حافظ الودائع فتتجدد لنرى الكثير من العظماء يتجددون أمامنا.
– صحيح عم عبده، الشهداء لا يموتون لقد كان عمار قدوة وتحول إلى نموذج باستشهاده.
لكن تصور عم عبده هؤلاء الأبطال يعيشون في حالة صعبة حتى على مستوى العيش بعضهم يمشي حافيا والآخر يمكث عاريا ليغسل بدلته الوحيدة. 
العم عبده: كأنهم لا يبالون بكل هذا هل ترى في وجههم انكسارا أو حزنا؟  
– لا والله لا أرى فيهم إلا بسمة و أملا واصرارا.  
العم عبده: هؤلاء هم رجال الله الذي يعز بهم الحق ويركعون الباطل لا ينكسرون ولا يمنون على أحد. 
سعيد: أين صبري يا عم عبده؟
سكت العم عبده.. ثم نهض عائدا إلى بيته يحمل حزنه على عمار والرجال الذي يغيبون مثل الكواكب وسط الغيوم والحجب الماطرة. 
يتبع..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى